غزةُ
وليدةٌ، أنجبتها أمها وحيدةً على الرمل، استعارت أكاليل الغناء من ملائكةٍ مروا
هناك مصادفةً، أحاطت جسد الوليدة بالنايات، وغسّلتها بالزيتِ المقدّسِ ومسّدت
ذراعيها بالقبلات، مشّطت شعرها القليل بأصابعها، وانتظرت على ممر القوافلِ مليونَ
سنةٍ، ولم يأتِ أحد.
غزة طفلة، زوّقت السقف من أجل ميلادها، أحصت الشموع ألف مرة، غطت المائدة المهترئة بأوراق هدايا كي لا تراها صديقاتها، استعارت آنية من جاراتها كي تعجب المعلّمة التي سترافق ابنتها إلى الحفل كما وعدت، غطت الشق في جدار البيت القديم بألوان مدرسية، ارتدت فستانها الذي كانت تنظر إليه في الخزانة كل ثلاث دقائق، فكت جدائلها لتبدو أجمل بشعرها المتطاير، لمّعت حذاءها، ربطت شريطاً أحمر حول الفتحة في جوربها الأبيض، رفعت صوت الموسيقى كي تناسب جو الحفلات، وحدها ظلت هناك، ولم يأت أحد.
غزة، تفرك عينيها بالياسمين هذا الصباح، وترتدي قرطاً بلون البحر، وفستاناً للعيد بزركشاتٍ شجرية وملمس مخملي، تتهيأ لزيارة أولادها، أعدت الحلوى ككل عيد، الشاي والقهوة وعصير البرتقال على الطاولة أيضاً، والخبز البيتي بجوار أطباق اللبنة والزيت والزيتون الذي لم يتخلل إلى النهاية بعد، صينية الفاكهة، الشبابيك مفتوحة، والأرض مرشوشة بالعطر والحيطان منمقة بالحنّاء، غزة تنتظر، ولم يأت أحد.
غزة تعتني بحديقتها، لا يجوز أن يأتي العاشق ويرى العشب مهروس تحت أقدام الغرباء، أو يرى وردةً تذوي على غصنها، بللت التراب بماءٍ معطّرٍ بالأدعية، شذبت كل غصنٍ ناشزٍ عن أمّه، رتّبت حجارة السورِ بفنيّةِ امرأة محبة، رتبت قنوات الماء الصغيرة بين الأحواض، نظفت النعناع والحبق ورقة ورقة، وضعت كومة سكّر في زاوية الحديقة كي تلهي النمل عن جذور النبتات الضعيفة، أعطت الدعسوقات [أم سليمان] الحريّةَ في المكان، الفراشات تعاطفن معها وملأن الهواء بالألوان، نفّضت أعشاش العصافير، وجلست مقابل الباب، ولم يأت أحد.
غزة تجهز أغنياتها للعرس، تدعو الجميع، تقطف برتقالاتها بعناية عن الشجر، "اللوج" جاهز للمدعوين، شاشتها البيضاء، ثوبها المطرز بحرير "مونس"، حزامها المرصع بالزغاريد، ورقصتها العجيبة المرافقة ليدين تلوحان في الهواء كمن يقطف أقماراً، شراب الليمون في القدر الكبيرة وأوراق الليمون اللامعة تسبح على سطحه، الزينة معلقة بشكل قطري، ورود وخراخيش أطفال، علب الملبس المملوءة بأدعية قديمة، كل شيء جاهز، ولم يأت أحد.
غزة تهيئُ تابوتاً من خشب المندلينا.
تعدّ جنازتها قرب البحر تلضمُ الفصول كمسبحةٍ في عنقِها.
ودون دعوةٍ يأتي الجميعُ.
ولم يتأخر أحد.
الأديب الفلسطيني الكبيير
خالد جمعة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق