الأحد، 15 يوليو 2012

الطفل الموهوب! أين هو من اهتماماتنا؟

الطفل الموهوب (المتفوّق) هو شخص يفكّر بشكل مختلف عن أمثاله من الأطفال الآخرين. هذا ما كشفت عنه آخر المستجدّات في البحوث المتمحورة حول الدماغ، وتلك المخصّصة للتعرّف عليه.
          هنا تكمن مشكلة الطفل الموهوب: فما هو ضمني بالنسبة للآخرين ليس كذلك بالنسبة له، كما أن فرادة نمط التفكير عنده تشكّل الحجر الأساس الذي ينبني عليه كل الاختلاف المميّز له عن الأطفال الآخرين، وفهم هذه الفرادة في التفكير، أي تقييم خصوصية وظائفيته (العقلية والنفسية و...)، ضروري لفهمه ولتمكينه من تحقيق اندماج ناجح مع مجتمعه ونمو متوازن في شخصيته، إذ قد يقوده عدم امتلاكه التضمينات الموجودة نفسها عند الآخرين لعدم فهم ما يُطلب منه، لإعطاء إجابة جانبية أو، أيضًا، للقول "لا أعرف". وهذا ما يفهمه الآخرون، الأهل والمعلمون بشكل خاص، بمنزلة استفزاز وتحدّ لهم مع أنه، بكل بساطة، لا يعرف ما يتوقعونه منه (فمصطلحاته تختلف عن مصطلحات الآخرين، مثال: على السؤال المطروح ضمن إطار رائز ذكاء "ما الذي يجعل الحديد مصدّأ"؟ تجيب مراهقة متفوّقة بعمر 13 سنة محتارة "لا أعرف"، ومع ذلك، فهي تجيب، لدى استكمال الاستقصاء، عن السؤال "ما الذي لا تعرفينه"؟ "لا أعرف النسق الكيميائي المسئول عن الأكسدة"، فإجابة "الأكسدة" بالنسبة إليها ليست إجابة، أي من غير الممكن أن تكون الإجابة المتوقعة، إذ تعتبر بالنسبة إليها من البديهيات).
          وهكذا، تُقيّم نتائج الطفل سلبًا. أكثر من ذلك، يعتبر المعلم الطفل وقحًا واستفزازيًا، أكثر فأكثر، كلما حاول هذا الأخير تبرير نفسه. (زد على عدم معرفته... التحدي... إنه حقًا رأس يابس)، والأهل، واثقون من تأويل المعلم ومقتنعون هم أيضًا من أنه أراد الظهور بمظهر العارف، يقاصصونه، أما الطفل الذي لا يفهم ما يجري، فيزداد إحساسًا بأنه غير مفهوم، ويعيش الحدث بمنزلة ظلم فادح يُلحق به. والأخطر، أنه يفقد ثقته بالأستاذ ويميل للتقليل من كفاءته، وبالنسبة إلى الأهل فإن ميلهم بشكل عفوي إلى جانب الأستاذ يعني أنهم لا يثقون به، وهذا الجرح سيبقى حيًا عنده وسيوقظه أي حدث جديد من النمط نفسه سيتعرّض له، مهما كان ضئيلاً، معزّزًا أكثر فأكثر إحساسه بالعزلة والغربة.
خصائص عقلية وعاطفية
          في الواقع، يتميز الطفل الموهوب عن الطفل العادي وعن ذلك الذي يمتلك مستوى ذكاء مرتفعًا فحسب بمجموعة من الخصائص العقلية والعاطفية الخاصة به.
          على المستوى العاطفي، إنه إنسان ذو حساسية مفرطة ومزوّد دائمًا بعدد من اللاقطات الموصولة دائمًا بكل ما يحيط به. إنه يمتلك قوة إدراكية وتحليلية شاذة بالنسبة إلى كل المعلومات المتأتية إليه من بيئته، كما أنه مزود بقدرة هائلة على إدراك الحالة الانفعالية عند الآخرين، الأمر الذي يجعله عرضة لاقتحام انفعالات، وأحاسيس ومعلومات متعددة ومتنوعة، يصعب عليه غالبًا عيشها ودمجها وبلورتها، لا بل يحاول حماية نفسه منها بإبقاء نفسه على مسافة من مجمل الدائرة الانفعالية، وبالانقطاع عن انفعالاته الخاصة به. وهذه الوظائفية تُضعف نموّه العاطفي وتجعله سريع العطب نفسيًا.
         وعلى المستوى العقلي، يتميز هذا الطفل بذكاء ذي شكل خاص، حيث المظهر النوعي هو الأهم وليس المظهر الكمّي، وحيث يمكن القول إن الطفل الموهوب يفكّر بشكل مختلف عن الأطفال الآخرين، يمتلك بنية استدلال مختلفة (يسيطر الدماغ الأيمن عنده، أي أن البعد الانفعالي يشكّل بعدًا أساسيًا في وظائفيته العقلية، هذا بالإضافة للخصائص التالية: المعالجة العفوية والمقارنة الشاملة والنظرية، أي بالصور، للمعلومات المتأتية إليه من الخارج، الحدس، الإبداع، التفكير المختلف والانفعالية).
          وعلى مستوى التنظيم النفس - عاطفي، يتميز الطفل الموهوب أيضًا بقوة الركن الانفعالي الذي ستُبنى شخصيته على أساسه، والذي تساهم مميّزات - كإفراط الحساسية واحتدام الإدراك الحاسّي - بتعزيزه عنده. في الواقع، يلاحظ وجود إفراط في الحساسية، عند كل الأطفال الموهوبين، وإن بشكل أقل أو أكثر حدّة تبعًا لقدرات كل طفل على موازنة أو إدارة هذه الحساسية. وهي (الحساسية) تقذف الطفل، باستمرار، بمعلومات حاسّية محمّلة بشتّى أنواع الرسائل العاطفية. ثم، يأتي الإدراك الحسي المحتدم ليزيد هذا الركن الانفعالي حدّة نظرًا إلى كون الطفل الموهوب يمتلك حواس ذات قوة إجرائية عالية جدًا. فنظرته ثاقبة ومنقّبة، نظرة تزعج أحيانًا نظرًا إلى كمية المعلومات والمعطيات التي يستخلصها هذا الطفل من جرّاء استكشافه السريع والدقيق..، سمعه حاد، يسمع أصواتًا على موجات واسعة جدًا، ويمكنه الاستماع في الوقت نفسه لمصادر صوتية مرتفعة عدة، حاسّة الشم قويّة جدًا، إذ يمكنه التقاط رائحة لا يدركها الآخرون، وإعطاؤها معنى (أي يحدّدها)، حاسّة الذوق تمكّنه من تمييز أطعمة شديدة التقارب (يوازي حس الشم عنده حس الذوق. قد يقيّم هذا الطفل أطعمة لا يتذوّقها الأطفال العاديون إلا نادرًا)، وأخيرًا، حاسّة اللمس هي، الأخرى، حادّة عند الطفل الموهوب الذي يحب ويبحث عن الاتصال الفيزيقي إذ يشكّل، بالنسبة إليه، مصدرًا غير لفظي غاية في الأهمية للاتصال مع الآخرين (لمس الآخرين، لمس الأشياء،...)، بالإضافة لكونه يشكّل مصدرًا لمعلومات تكمل فهمه للعالم وضرورية جدًا لتوازنه العاطفي.
          باختصار نقول، يوسّع احتدام الحواس عند الطفل الموهوب إطار إدراكه للعالم المحيط به معمّقًا،  الأمر الذي يجعل انفعالاته أكثر احتدادًا: فقدرته على رؤية تفاصيل دقيقة، سماع ضجّة مهما كانت ضعيفة،، شم رائحة تكاد تُدرك،... إلخ.
حساسية ونفاذ بصيرة
          باختصار نقول، يتميّز هذا الطفل بمواصفات عاطفية ستلوّن نموّه بكل مظاهره، وستُبنى هويته انطلاقًا منها (إنها المعطيات الأساسية في شخصيته)، من أهمها:
 الحساسية الانفعالية المفرطة: كل حواسه هي، كما سبقت الإشارة، مفرطة بحيث يدرك كل ما يدور حوله بحدّة استثنائية وتتقاذفه مختلف المعلومات الحاسية المتأتية إليه من بيئته، فيمتصها كاسفنجة انفعالية، الأمر الذي يزيد من قابليته للتأثر ولسرعة العطب على الصعيد الانفعالي.
 التعاطف: يمتلك هذا الطفل ما يسمى بالحاسّة السادسة، فهو يحس بحال الآخرين الانفعالية، بدقة فائقة، يدرك انفعالات لا يدركها الآخرون، وأحيانًا قبل أن يدركها الشخص المعني نفسه...
الصحو ونفاذ البصيرة: فارتباط الحساسية الانفعالية المفرطة مع حدّة الذهن العقلية، عند الطفل الموهوب، تعزّز صحوته تجاه بيئته مزوّدة إياه بالفهم المعمّق للعالم المحيط به.
          لكن، لهذه المواصفات، في المقابل، انعكاسات سلبية متعددة ومتنوعة على النمو العاطفي عند هذا الطفل، يبقى أهمها، قابليته المفرطة للجرح والعطب، وترتبط بحساسيته المفرطة، وحدّة إدراكه لكل ما يدور حوله، إحساس متواتر بالعزلة الانفعالية (إذ كيف يفهم الطفل أن الآخرين لم يسمعوا، لم يروا... أشياء تبدو واضحة بالنسبة إليه؟) والنتيجة، هناك شك بالذات يرافقه في مختلف تجاربه الحياتية.
          لابد من الإشارة هنا إلى أن خصائص الوظائفية العاطفية، التي تعتبر مصادر قوّة بمقدار ما تمثّل مصادر ضعف عند الطفل الموهوب، هي مشتركة عند كل الأطفال الموهوبين وتشكّل عناصر أساسية للقيام بالتشخيص. فلمؤشرات الفرادة العاطفية عنده الأهمية نفسها، التي تمتلكها مؤشرات الفرادة العقليّة. وهذه الفرادة ستشكّل، بحد ذاتها، نقطة الانطلاق عند هذا الطفل لــ"بناء هويته"، وبناء الهوية يعني إحساس الفرد بذاته كونها فريدة إنما، أيضًا، إحساسه بالانتماء، وبأنه جزء لا يتجزأ من المجموعة (أي مماثل، ضمن حدود معينة طبعًا، لأفراد هذه المجموعة). وهذا "الإحساس بالانتماء"، يشكّل ثابتة أساسية في بناء كل فرد لهويّته الشخصية، إنما يكمن الرهان الأكبر عند الطفل الموهوب، في هذا المضمار، بالجدليّة القائمة بين تماثله مع الآخرين من جهة، وفرادته من جهة أخرى.
هوية مزوّرة
          ثم إن هذا الطفل يتعرض، أثناء بناء هويّته، لبناء "ذات أو هوية مزوّرة"، نتيجة تعرّضه للعديد من المخاطر المرتبطة كلّها بفرادته (أي باختلافه عن باقي الأطفال)، من أهمّها:
         "صعوبة إحساس الأم بحاجاته"، إذ يصعب عليها فهم توقعاته وحاجاته، ومن ثم الاستجابة لها بشكل مرضٍ له، مما يجعلها تحس نفسها غير كفؤة فتفقد ثقتها بقدرتها على أن تكون أمّاً جيدة، والنتيجة؟ خيبة أمل مزدوجة بينهما. وهكذا، تتفوق الخبرات الإحباطية عند الطفل الموهوب على الخبرات السارّة فتخلق عنده إحساسًا بانعدام التماسك داخل الذات، حيث يجد نفسه عاجزًا عن الاحتفاظ بآثار مستمرة لخبرة معيشه، لأن خبراته مطبوعة بعدم الإشباع، سيشكّل ذلك أساس الإحساس بعدم تحمّل الإحباط، الشديد التواتر عند الطفل الموهوب. ثمّ إن صعوبة إحساس الأم بحاجات طفلها قد تقوده باتجاه تكوين "ذات مزوّرة"، إذ سيميل لكبت حاجاته ورغباته الخاصة به كي يمتثل مع رغبات الأم وحاجاتها (هنا يكمن الخطر الأوّل في غزو "الذات" عند الطفل الموهوب).
          الخطر الثاني: يكمن في انعدام الفهم بين هذا الطفل وأهله، الذي يؤدي إلى تفاعلات تضعه موضع هوية ليست خاصة به، ويعجز عن رؤية نفسه فيها. فالتقاطه لمشاعرهم بفضل رهافة حسّه (يدرك الطفل الموهوب، مثلاً، وقوع المشادّة بين أهله قبل وقوعها فعليّا وأن صراعًا بينهما يتهيّأ...)، بالإضافة إلى أن صعوبة إحساسهم بحاجاته، يجعلهم عاجزين عن تكوين تلك النماذج الكليّة القدرة، التي لابد له من التماهي بها وبالتالي، عاجزين عن لعب دور الحماية والطمأنينة والنموذج المناط بهم كأهل.
          والخطر الثالث يكمن بإدراك الطفل الموهوب للتفاوت الموجود عنده بالنسبة لبيئته الاجتماعية، عند دخوله إلى المدرسة، إذ يجد نفسه عاجزًا ضمن إطارها عن التماهي بمجموعة الرفاق الذين يشعر بنفسه مختلفًا عنهم، ويجد صعوبة في تقاسم مراكز اهتمام مشتركة معهم، وفي الارتباط بعلاقة مع صديق حقيقي... هذا، مع العلم بأن للتماهي بالرفاق أهميته القصوى في نشوء الإحساس بالانتماء، ومن ثم بالطمأنينة عند الطفل والمراهق، وهذا التماهي يتبلور، بشكل خاص، ضمن إطار ظاهرة "الجماعة"، حيث يختار الفرد نماذجه من بين أفرادها إذ يتمنّى أن يتشبّه بهذا أو ذاك لأنه يعجبه، وتصبح المجموعة، إذّاك، نموذجًا للأنا كوحدة لها معاييرها وقواعدها. ومن المطمئن الإحساس بالانتماء إلى مجموعة، حيث يعترف الآخرون به ويقبلونه... هذا الاعتراف الذي يشكّل ثابتة ضرورية للتوازن النفسي وللتكيّف المدرسي عند التلميذ. باختصار نقول، التماهي بالرفاق هو مؤشر على نمو سوي.
          هكذا، يمكن اختصار الرهان الأساسي، بالنسبة للطفل الموهوب، بما يلي: أيحافظ على نظام التفكير الخاص به؟ أم يتبنّى نظام التفكير الخاص بالآخرين، الذي يبدو له أكثر تلاؤمًا، إنما أقل إثارة لاهتمامه؟ هذا، مع العلم بأنّ ما يحتاج إليه، بالدرجة الأولى، يكمن في الاعتراف به كما هو باختلافه كما بتماثله مع الآخرين، وبشكل خاص مساعدته على تكوين إحساس بالطمأنينة وبالهويّة يسمح له بأن يصبح راشدًا منفتحًا وواثقًا من نفسه.
التربية والتكيف
          تقع المسئولية، في هذا المضمار، على عاتق الأهل والمعلّم بالدرجة الأولى، والمطلوب منهما تكييف تربية ملائمة له كطفل موهوب يكون مفتاحها الحقيقي "الانفتاح على الآخر عبر الحوار التبادلي، المشارك، البنّاء والبعيد عن اعتباره مذنبًا أومسئولاً عن الصعوبات التي يجدونها بإنجاحه"، والوسيلة الفضلى، لأنّها الأكثر فعالية لمساعدته في مسيرة نموه، في مسيرته الدراسية على وجه الخصوص، هي التعاون. أمّا المنهج الكفيل بتحقيق هذه التربية فيكمن في اتخاذ المربي (الأهل أو المدرس) الموقف التالي: "فسّر لي كيف تعرف، كيف تتعلّم،...". تكمن أهميّة هذا المنهج، في الحقيقة، بالتعرّف على القواسم المشتركة بخصوص ما يفهمونه وما لا يفهمونه عنده كطفل، كما يسمح لهم بالبحث معه عن حلول، أفكار ومجالات انفتاح متبادلة تكون، بحد ذاتها، مثيرة للارتياح وبنّاءة بالنسبة للجميع. وهي تشكّل ثوابت تربوية مفيدة للتعامل مع كل طفل (الطفل الموهوب أيضًا)، لكن، بالنسبة لهذا الأخير، لابد من إضافة ثوابت أخرى تنطلق من الخصائص المميزة له كطفل يبقى أهمّها، بالإضافة إلى ما سبق ذكره:
1)    يسيطر الدماغ الأيمن عند الطفل الموهوب، وهو الدماغ الانفعالي، هذا ما كشفت عنه التفسيرات العصبية  الفسيولوجية حول الوظائفية المعرفية، وهذا البعد الانفعالي هو أساس في الوظائفية العقلية عند الأطفال الموهوبين إذ ترتبط الناحية العاطفية عندهم بكل مظاهر حياتهم، وقد تغزو حقل تفكيرهم، بحيث تشكل كل احتمال للتحليل المنطقي والعقلاني للوضعية وللمشكلة (يلاحظ، في المدرسة، كم يبقى هؤلاء الأطفال بحالة تبعية عاطفية للأساتذة، قد ينجحون بشكل باهر في عام ويرسبون بشكل لافت في العام اللاحق، حيث لا ترتبط النتائج المدرسية هذه بكفاءاتهم بل بارتباطاتهم العاطفية مع الأساتذة، حيث مع من يقيّمونه يبدو انخراطهم المدرسي كاملاً، والعكس يحصل مع من لا يحترمونه).
2)    وبفعل سيطرة الدماغ الأيمن، فهو مزوّد بطاقات على المعالجة المعلوماتية الشاملة والمباشرة تتجاوز، وإلى حد بعيد، قدراته على القيام بمعالجة متتابعة للمعلومات: يقرأ "بشكل شامل"، يفهم معنى ما يقرأه لكن يصعب عليك فكّ رموزه. تستخدم وظائفية الطفل الموهوب صورًا ذهنية (قدراته النظرية - المكانية مرتفعة جدًا). وحين يقرأ، يشكّل صورًا تشمل عدة كلمات، حيث تؤمن له الصور المعنى.
3)    الطفل الموهوب يلعب بالحساب، لكنه لا يعرف كيف يتوصّل للنتيجة، فالنتائج تظهر على شاشة ذهنه دون أن يدرك المسار الذي قاده للحصول على الإجابة).
4)    يمتلك الطفل الموهوب ذاكرة استثنائية على مستوى ذاكرة العمل، أي الذاكرة القصيرة الأمد، تسمح له بالاحتفاظ بعدد مهم من المعطيات للقيام بمعالجة فوريّة للمعلومات، كما أن بإمكانه حفظ كتاب فور أن يقرأه. ثمّ إن ذاكرته تعمل أثناء النوم (لوحظ أن الأطفال الموهوبين يملكون مراحل خاصة بالحلم أطول من تلك الملاحظة عند الطفل العادي).
5)    تشكّل فرادة الذكاء عند هذا الطفل الموهوب عائقًا جديًا في التعامل معه، إن من قبل المدرسة أم من قبل الأهل. في الواقع، يصعب على المعلّم فهم أنّ هذا الطفل الذي يمتلك معينًا من المعلومات المتنوّعة ويعبّر عنها بسهولة، قد لا يفهم أو أنّه يئوّل بشكل مختلف متن سؤال معيّن أو مشكلة عليه حلّها. كذلك القول بالنسبة للأهل: كيف يمكنهم تحمّل طفل غاية في الحيوية، سريع الفهم، بارع في التأويل، ذي نفاذ بصيرة في تحليلاته. يجعلهم يكرّرون مرات عدة التعليمات نفسها ولا يفهم ما يقال له أو ما يطلب منه؟
6)    لا يمتلك هذا الطفل الأوليّات المعتادة للتعلّم: فبالنسبة له، حفظ الأمثولة بقراءتها السريعة يكفي، والأهم أنه يجهل: كيف يعرف؟ كيف عمل لحل مسألة معيّنة، كيف كان ينبغي القيام بالعمل؟!
كيف نساعده على تقبّل النظام المدرسي؟
          نقول له بكل وضوح: "نعرف أنّك تفكّر بشكل مختلف ونحن نقبل ذلك، لكنّ النظام المدرسي مختلف عن نظامك ونطلب منك فهمه واحترامه" نضيف (لتكون الرسالة واضحة ومقبولة) "يمكنك الاحتفاظ بنظام تفكيرك، لكن عليك فهم النظام المدرسي والعمل على تأمين مقوّمات نجاحك المدرسي انطلاقًا من قدرات الذكاء التي تمتكلها".
          وفي المنزل، تتّخذ هذه المشاركة كل معناها إذ، على الأهل تعلّم كيفيّة الدخول إلى شكل التفكير عند طفلهم، سيكتشفون - وهذا ما سيفاجئهم - عالمًا يساعدهم على التواصل معه بشكل أفضل وعلى فهمه، لأن اقتراح المشاركة والتقاسم عليه يعني، بالنسبة إلى هذا الطفل، الاهتمام به ومنح الأهميّة لنمط تفكيره: وهذا ما سيثير الفرح بداخله.
          هذا ومن الضروري تكييف تربية ملائمة له، تربية تعتمد استعادة نمط ديناميكيته كمحور لها لأن الصعوبات التي يجدها الطفل الموهوب ترتبط خصوصًا بأشكال التعلّم عنده، فحشريّته للحصول على معلومات جديدة تبلغ حد عدم الصبر، لكن ليس تحت الشكل المقترح من قبل المدرسة البعيد كل البعد عن طريقته في التعلّم بل لأنماط تعلّم تكون متكيّفة مع خصائص وظائفيته الفريدة. يشكّل اعتماد تقنيّة السلّم التنازلي مع الطفل الموهوب، مثلاً، أحد أنماط هذا التعلم: قد يبدأ التعلم بشكل معاكس لذلك المميّز للطفل العادي (ننزل السلّم بدلاً من صعوده "بدء الكتاب من آخره" أي بدء السنة بالمقلوب وبآخر أمثولة في البرنامج، فهو يحتاج إلى مواجهة التعقيد كي يحرّك موارده الفكرية وينخرط في عمليات التعلّم المقترحة عليه..).
          وحاجته الدائمة إلى شرح المعنى والهدف من التعلّم: لمَ القيام بذلك؟ بم يخدم؟ بم سيفيدني؟ تعتبر بمنزلة تقنية أساسية تكمل أيًا من التقنيات التي قد تُستخدم معه إذ، لا يمكن للطفل الموهوب تعلّم شيء إن لم يحدد له المعنى بشكل واضح، كما لا يمكنه تقبل قانون المدرسة إن لم توضّح له القواعد والهدف.
          والأهم بالنسبة لتحديد الأهداف التربوية للطفل الموهوب أنه يساهم في تنمية الدافع لديه للنجاح إذ، ليكون هناك دافع لابد من وجود هدف واضح ودقيق: بم أرغب؟ ولم أرغب بذلك؟ ماذا سيؤمن لي؟ ودون دافع، لا وجود لأي تعلّم (تتّفق مختلف الدراسات الحديثة على ذلك).
مميزات مشتركة
ليس هناك مؤشرات خاصة يعني وجودها عند الطفل إمكان القيام بتشخيص أكيد.
هناك بعض المؤشرات التي تساعد المربّي على بدء التشخيص تمهيدًا لاستكماله:
 في الطفولة الأولى، يلاحظ عادة بعض المظاهر المبكرة في النمو وفي بعض عمليّات التعلّم.
صلابة (يرفع الطفل رأسه بسرعة، يجلس بشكل مبكر)، نظرة ثاقبة منذ الأسابيع الأولى (يبدو الطفل وكأنه يلاحظ العالم وبيئته، بانتباه مزعج أحيانًا)، قلة النوم (يبدو أنّ حاجة الموهوبين للنوم هي أقل منها عند الأطفال الآخرين). ظهور اللغة بشكل مبكر وجيّد دون مرحلة ما قبل  اللغة يتملكنا الإحساس بأن الطفل كان ينتظر استكمال معرفته للتكلّم بشكل جيد كي ينطلق بالكلام. هذا ما يقوله الأهل غالبًا، كما يلفت المعجم وغنى اللغة المستخدمة الانتباه عندهم. (يستخدم الطفل الكلمة وبمحلّها). استخدام القدرة على ضبط اللغة للانخراط باستكشاف العالم (فمنذ الكلمات الأولى تدخل الأسئلة: لماذا؟ وكيف؟ على الخط وتبقى طيلة الحياة).
          في السن ما قبل المدرسي، هناك أسئلة لا تنتهي (يريد الطفل أن يعرف، يفهم ويكتشف قوانين وظائفية العالم، وبشكل خاص حدود الحياة والموت: من أين نأتي؟ لم نحن موجودون؟ كيف كانت البداية في الحياة؟ وكيف خُلق العالم؟ وبعد الموت، ماذا هناك)؟ عدم الاكتفاء أبدًا بإجابات مبهمة، غير كافية أو غير دقيقة: يشبه هذا الطفل عالما (باحثا) يبقى يبحث ويبحث مادام لم يعرف الجواب المشبع لحشريته، ويستتبع استقصاءه. وبما أن الجواب الوافي نادرًا ما يأتي، فإنه يكمل استقصاءه ما أن يستيقظ حتى يبدأ غزوه للعالم الذي لا يتوقف إلا عند النوم (يتعب الآخرون لا هو)، رغبة في التعلّم لغزو العالم، لابد من توافر أدوات، وسائل، لذا، سرعان ما يتطلّب الطفل الموهوب ما يحتاج إليه منها للتوغل في استكشافاته إذ يود معرفة القراءة، فهم نظام الوقت، تعلّم الأرقام.
          ملاحظة: من الضروري بمكان عدم كبحه.. فالطفل الذي يود التعلّم والحشري تجاه عمليّات تعلّم جديدة، يجب أن يتم الاستماع إليه وتزويده بالمفاتيح الكفيلة بمساعدته على فك الرموز: لكن، لا يطلَب من الأهل أن يحلّوا مكان المدرسة، بل فقط تأمين ما يحتاج إليه للقيام بذلك.




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق