إن مناولة العولمة كظاهـرة ، تقتضي من كل دارس، من كل باحث، عدم التسرع، في إصدار أحكام قطعية، أحكام مسبقة، أحكام قد تكون مفبركة إيديولوجيا .. فليس هناك من جهة ، تستطيع ، أن تدعي ، التنبؤ بمآل العولمة، أو شكل تبلور هذه الظاهرة، أو ما تحمل من مفاجآت .. فالعولمة ظاهرة موضوعية ، ونتيجة منطقية للتطور الرأسمالي ، فالرأسمالية الراهنة ، كما هي منذ فجر تاريخها ، تنزع تحو العالمية ، والاقتصاد الرأسمالي ذو ميل طبيعي للتوسع الجغرافي – كما يرى ماركس – فالعولمة هي بالأساس مشروع اقتصادي رأسمالي ذو بعد دولي، يحاول أن يتحكم في مسارها في الوقت الراهن، أباطرة المال ، والتكنولوجيا ، والقوى التي تمتلك الاقتصاد والسلاح وبالتالي منطق السياسة إلى حـد بعيد ...كما تشدد تلك القوى من قبضتها لفرض هيمنتها ، وإعادة إنتاج عوالم على شاكلتها ، من حيث علاقات الإنتاج ، علاقات التبعية ، لا من حيث النهضة والتطور . وعلى أثرها تتآكل الحدود القومية ، وتتذلل العقبات ، والقيود أمام تدفق مختلف السلع ، وانتقال رؤوس الأموال، العولمة من جانب آخر ، موضوع قديم جديد ، انطلقت بوتائر بطيئة ، ثم تسارعت مع الحداثة، فتجلت العولمة كمعادل منطقي وطبيعي للحداثة منذ مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، وبالترادف مع الثورة العلمية والتكنولوجية، خصوصا في مجال الاتصالات، والمعلومات؛ حيث استمدت العولمة منها الاندفاع والحيوية .
من المعلوم أنه لولا هذا التقدم التكنولوجي الهائل ، لما كان بوسع الرأ سمالية ، أن تندفع هذا الاندفاع الهائج نحو العالمية ، وقد تمثل هذا الاندفاع والحيوية ، ببروز شركات تتخطى الحدود القومية، اتسمت بالضخامة ، وتنوع الأنشطة ،والاستئثار بالكفاءات العلمية.
لقد عرف أحد المعاجم العولمة بأنها تعني ( إكساب الشيء طابع العالمية )؛ ومنها جاءت عولمة الطب ، عولمة الثقافة ، عولمة التكنولوجيا ، عولمة الإنتاج ...الخ. والعولمة في بعض غاياتها – كما ترى – هي حلم البشرية ، فمن منا لا يبتهج لعولمة الطب ، أي جعل مجال استخدامه عالميا ، كما أن غالبية بني البشر تتوق لعالمية مبادئ ، كالديمقراطية ، وحقوق الإنسان...
لقد استخدمنا مصطلح العولمة والعالمية بمعنى متقارب ، مع ملاحظة أن العولمة تحمل معنى القسر، معنى إرادة، هيمنة ، ضغط ، فعل خارجي ، وهي تفترق عن العالمية ، لأن العالمية طموح للارتقاء بالخصوصية إلى مستوى عالمي بتعبير محمد عابد الجابري ؛ لكن المحاذير تبقى ، والقلق المشروع يأتي من أن العلم، والتكنولوجيا ، والمال في قبضة الأقوى ، وكل هذه العناصر لها سياساتها ، ومصالحها ، وتأثيراتها علـى قرارات وسياسات وتوجهات هذه الحكومات ، والأقوى هو الذي سيفرض أجندته على الآخرين....
ثم أن نشاط أي قطاع اقتصادي سياسي ثقافي في مدار العولمة ، لا بد له في ضوء المعطيات المذكورة من أن يترابط ، ويتشابك ، ويتداخل مع القطاعات الأخرى ، فانتشار الثقافة بشكلها الراهن ، غير ممكن بدون وسائل الاتصالات الحديثة ، وحركة العمليات التجارية ، وتسويق المنتجات رهن بتكنولوجيا متطورة، كما أن الفصل بين الثقافة والسياسة أمر غير ممكن ، فلا سياسة دون ثقافة ، فهما متلازمتان ويتجاور حقلاهما ، والسياسة تغتني بالثقافة ،وتعتمد عليها مهما اختلفت طبيعة النظم.
وهنا لا بد من الإشارة بأن معطيات جديدة ظهرت بالمقابل ، فتشكلت محاور وأقطاب ، معارضة للعولمة بشكلها الراهن وهي آخذة بالتنامي والاتساع ، دون أن ننسى ، من أن ثورة المعلومات ألقت بملايين البشر في دنيا البطالة وهؤلاء " لا يمكن الاستهانة بكلمتهم " . ولسوف يشكلون جيشا في وجه العولمة ، فهل يمكن – يا ترى - لأصحاب العولمة أن يمرروا كل ما في أذهانهم ، بغض النظر عن هذه المعطيات وفي ظل تزايد " عولمة معارضة " شاهدنا زخمها في كبريات مـدن العالم ؟ .. السؤال يبقى مطروحا ، والزمن وحده كفيل بالإجابة ...
أما في الجانب الثقافي ، في ظل العولمة ، فالملاحظ أن وعي الفرد ، يزداد بهذا التواصل والتدامج ، فهو يتحسس بعالمية البشر ، ويتحول تركيزه من المحلي إلى العالمي ، ويدرك أن الهوية الثقافية ، لأي شعب من الشعوب ، هي في المحصلة ، نتاج تراكم وإبداعات فكرية لشتى الشعوب ، وهي في حالة دائمة من التطور والتحول والازدهار ، لأن الثقافة تغتني وتزدهر بالتمازج والتصادم مع مختلف الثقافات الأخرى..
ألم يغتن الأدب العربي بفنون الرواية والمسرح والمذاهب الأدبية ، بالتواصل مع آداب الشعوب الأخرى ، وبالتلاقح مع ما كان لدينا من فنون الأدب كالمقامات ، والحكايات ، والسير الشعبية . ألا يعد سعي الديانات للانتشار من مظاهر العولمة الثقافية ، كيف انتقلت المسيحية إلى أوربا ومولدها في فلسطين ؟ وكيف انطلق الإسلام من مكة ويثرب إلى الهند والصين ؟ ألم تنتشر الماركسية كثقافة في كل أرجاء المعمورة ؟ لا بد للثقافة كما جاء في البيان الشيوعي ، من أن " تصبح ملكا مشتركا لجميع الأمم ، ويصبح من المستحيل أكثر فأكثر على أية أمة أن نظل محصورة في أفقها الضيق ومكتفية به " . فمن روافد الآداب القومية ظهر الأدب العالمي " وأصبحت – حسب تعبير ماركس – الإبداعات الفكرية لأمم محددة ملكية عامة " .. فالرأسمالية تعولم الثقافة ، والاشتراكية تأتي لتكمل عالميتها يقول لينين : " إن كل الحياة الاقتصادية ، والسياسية ، والروحية للبشرية ، تبتدئ بالتدول خلال الرأسمالية ، والاشتراكية تدولها تماما " فالحروب والهجرات والإرساليات التبشيرية ، والاستشراق ، والتعليم ، كل هذه العناصر ساهمت في خلق ثقافة عالمية ثم جاءت الثورة العلمية الصناعية الثالثة ، لتعدم المسافات بين الأمم والشعوب ، فتحول العالم إلى قرية ، حيث سهلت الثورة العلمية بالتالي التواصل ، وسرعت من وتائر العولمة ، وتأثيراتها فتشابهت المدن من حيث البناء ، والبشر من حيث الزي ، وانتشرت في الشوارع وسائط النقل من مختلف التبعيات ، وبودلــت سائر السلع ....
إننا لا نستطيع أن نعيش منغلقين على ذواتنا ، فالانغلاق بدعوى الخصوصية ، أو الغيرة الوطنية ، غدا أمرا مستحيلا في ظل التقانة الحديثة ، ويبدو لي أن الذين يتذرعون بهذا ، غالبا مـا يكون هاجسهم من أي تغيير يمس بنى حكوماتهم ، لضعف هوياتهم ، لا لبربرية العولمة كما يزعمون ...
إن ثقافة العولمة ، تفضي إلى عالمية مبادئ ، وقيم ، وتشارك في تكوين سلوكيات متقاربة للأفراد ، حتى أن بعض الخصوصيات ، تنتعش وتزدهر ضمن التنوع الثقافي ، وتتكيف مع الواقع الجديد ، أو تتساقط إذا لم تعد تجاري الزمن ، ولا حركة التاريخ ...
بالمقابل . علينا ألا نستهين بمواطننا ، ونعتبره عاجزا متلقيا فحسب ، فلو أنه أعطي حرية الاختيار فسوف يختار ما يرتاح له وما يريحه ؛ ألا ترى أن مواطني الخليج بغالبيتهم يرتدون الجلباب الأبيض ، وهذا مـا يريحهم ، ثم من قال أن كل ما لدينا حسن ، يجب المحافظة عليه ، وما لدى الآخرين سيء ينبغي نبـــذه ، أليس من الثقافة الجيدة عدم التمنطق بالخنجر ، أو اللثم بنقاب كما عند الطوارق ؟ ...
في الختام ... علينا أن ندرك أن العولمة لم يخترعها مفكر إمبريالي ، حتى نقف في وجهه جميعا صفا واحدا ..! فهي كما قلنا ظاهرة طبيعية للرأسمالية ، ومفهوم اقتصادي بالأساس ، وأصحاب العولمة يعون اللعبة، حيث أن النوعية الجيدة ، لأية ثقافة ، لأية سلعة , هي التي تفتح طريقها للانتشار والتعميم ، والسعر المغري للمستهلك ، هو الذي يجذب الزبون ، وليس أي إغراء آخر أو وطنية مزعومة ..
إن تحصين الوطن والمواطن ، لا يكون، بالانغلاق ، بل يتطلب مواجهة الاستحقاقات التي تستلزم قبل أي شيء بناء إنسان جديد ، إنسان حر ، واع ، مقتدر ، موفور الكرامة ... عندها يستطيع مثل هذا الإنسان المحصن بهكذا سلاح ، أن يواجه بثقة ، ويتفاعل مختارا وبجدارة ، مع تحديات العولمة ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق