السبت، 25 أغسطس 2012

الطفل والتلفاز والتربية


ما هي فوائد التلفاز؟
ما الذي يجعل الطفل يدمن على التلفاز؟
ما علاقة التلفاز بالتربية الترفيهية؟
كيف نتعامل مع مثلث الطفل والتلفاز والإعلان؟
      ينتـابني قلـقٌ كلما أبصرت طفلاً مجرداً يطرق باب المجهول، يحاول أن يشُدّ الخطى في عالم يرتابه الغموض، يحثّ السير في طرقه ممتلئاً بوقود الفضول، لا يفرق بين ممنوع أو لا ممنوع، ولايحذر خطره أو يشده المسموح. يؤرقني منظر صغير يفترش أرضا، متسمّراً أمام شاشة تلفاز تستغل إدراكه المحدود، فتخترق به بوابة الحياة، و تأخـذه بعـيداً بعيـداً في العوالم و الآفاق كلها، لا تفرق بين ما ناسب طفولته البريئة و بين ما يشوه صفحته البيضاء، تنشيه بِأَلَق الألوان و براعة الصور و صخب الأصوات، تسامره كلما أراد، و لا تجد أعذاراً البتة تمنعها من مجالسته كلما امتنع الآخرون.

      لا يزعجني التلفاز بصندوقه الصغير الذي يعرف الأمور كلها، ولا بتفاصيله الدقيقة التي تحشر الأنف في كل ذرات الحـياة؛ لكنــه يزعجـني عندما يفتح الباب واسعاً أمام أطفال أو حتى كبار لايعرفون التحكم بمقود التفكير، و لا التوقف أمام الخطير، و لا يؤازرهم في مشاهدته مرشدٌ أو ناصح ٌحكيم، فتراهم يتشربون كل ما يرون دون مصفاةٍ تمنع عنهم حصى الأضرار و اللامحمود.
      فالتلفاز مثله مثل كل مافي الحياة .. سلاحٌ بحدّين، هالكٌ ومنجٍ، فكيف نجنب أطفالنا دماره؟ و أنّى نجنيهم ثماره؟ أسئلة لا بدّ أن نبحث لها عن إجابات، في عالمٍ قلّما يخلو فيه بيتٌ ـ مهما كان صغيراً ـ من صندوق تلفازيّ يتسع العالم كله، ويجتذب إليه الجميع!
     ولا نستطيع إلا أن نعترف بأن التلفاز حاز بجدارة على مرتبة الامتياز، منافساً بذلك وسائل الإعلام الأخرى كلها التي تحدَّاها دون بذل جهد كثير، رابحاً بذلك رهان فوزه، داخلاً كل بيت من البيوتات العربية و الأجنبية، متصدراً غرف معيشتها، لامّاً من حوله أفراد أسرها، جاذباً انتباه أهلها.
حتى الأطفال استطابوا حلاوته ـ و إن كانت هذه الفئة العمرية لا تستطيع التمييز كثيراً بين الحلو و الدميم ـ فكان إن أدمن كثيرون؛ ممن لم يتوفر لديهم أهالٍ بإدراك عالٍ، و توجيه تربوي رفيع المستوى؛ مشاهدته، عاشقين خِدرَه اللذيذ الذي ينأى بهم عن عالم المتاعب، و يأخذهم إلى عالم الأحلام، عالم (سوبرمان) و (غريندايزر) و الرجل الوطواط.
     ومن الأمور التي يعشق الأطفال بسببها إدمان مشاهدة التلفاز، يمكننا أن نذكر:
1.
 حلاوة الاستعراضات وتألقها، و إبداعها المرئي والسمـعي بكل ما تحمله من صور فتّانة، و أصوات عذبة، و إيقاع سريع تؤثر في طفل لا يجـد صـدراً بشـرياً ـ أمـه أو أبـيه أو حتى الأصدقاء ـ يتسع وقته له؛ فالأب الغائب في العمل، و الأم المشغولة بـأمورها و المنزل؛ كلُّها أمورٌ تثير ملل الصغير، الذي ينسى شكواه أمام صندوقه التلفازيّ السحري بألق استعراضاته المبدعة.2. قدرة التلفاز على حمل الصغير على بساطٍ سحري، و أخذه بعيداً بعيداً عن عالم الممنوعات التي يعيشها إلى عوالم الأحلام المذهلة التي لا تتأتّى له إلا عبر شاشة التلفاز، فها هو يعيش في حياته الواقعية ضمن قيود تكبِّله بكثير من الممنوعات، كلمس بعض الأشياء، و إتيان بعض الأمور، و نهج بعض أنواع السـلوك ... إلخ، أما مـن خلال التلفاز فالعالم رحبٌ واسع ؛ لأنه عالم تتحقق فيه الأحلام كلها دون زجرٍ أو منع.3. منح التلفازُ الطفل فرصةً للتخلص من قيد قدراته الجسمية و الفكرية و المعنوية و المادية المحدودة، التي طالما حلم بتخطيها لتحقيق ذاته، فها هو ما إن يرى الأبطال التلفازيين و النجوم، في حالاتِ تَفَوُّقِهم الجسدي و الفكري و المعنوي و المادي، حتى ينتقل بروحه و جسده الضعيفين إلى عالَـمِهم ليشاركهم انتصاراتهم وكأنه واحد منهم، قادراً على تخطي كل الصعوبات التي تحيط به، و تعيق انطلاقه في عالمه الصغير.4. فضول الأطفال وتعطّشهم للمعلومات و المعرفة أيّاً كان نوعها أو شكلها؛ فكيف إن كانت المعلومة مقدمة على طبق فني شهي مبهر؟! فيه من الألوان و الأصوات و الحركة ما يذهل كيان الطفل و يثري خياله؛ ليتباهى بما تعلمه أمام أبناء جيله، غير واع ٍ صِدقَ أو كذبَ المعلومة التي تُقدم إليه على طبقٍ من ذهب، إذ ليس كل ما ينقل عبر الشاشة هو حقيقة أو واقع.
     وليست الحقائق كلها التي تتعلق بمشاهدة الأطفال للتلفاز غايةً في السـوء، و لا هـي أيضاً مثـالٌ للإيجابية المطلقة، إنما الأمر كما أسلفنا: سلاح ذو حدين، به نقتل و به نحمي أنفسنا، و بواسطته ندمر أو نبني أمجادنا.
      فها هو التلفاز ـ إن شوهد حسب المعايير المسموح بها ـ يعمل على تنمية الجوانب الأخلاقية و الاجتماعية، و روح التعاون و العمل الجماعي عند الأطفال، كما يبثّ الروح الإنسانية و يمنح الطفل الثقة بنفسه و قدراته، كل ذلك عن طريق المواد التلفازيّة الطفولية الهادفة و المدروسة بعناية، كما يسهم التلفاز في صنع لغة اجتماعية مشتركة بين أطفال البيئة الواحدة الذين يتلقّون البثّ و البرامج نفسها، إذ ينمي بينهم الحوارات الاجتماعية التي تدور حول ما شاهدوه على شاشة التلفاز، مذيباً بذلك الكثير من الفوارق الاجتماعية التي كانت قبل عائقاً فيما بينهم. ناهيك عن دور التلفاز في توجيه الأطفال إلى سلوكيات و منهجيات اجتماعية إيجابية، و إبعادهم عن السلوكيات السلبية.
     كما بإمكان التلفاز مدّ الجسور الاجتماعية بين عالمي الأطفال و الكبار؛ عن طريق تعويد الصغار على قواعد سلوكية تنظم العلاقات الاجتماعية بين العالَـمَيْن: كـتعليم الطاعة و الاحترام والحوار و المجالسة، كل ذلك ضمن الحدود المقبولة.
زد على ذلك دور التلفاز في تعميق انتماء الأطفال الاجتماعي إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، و إشعارهم بالأمان، من خلال تقديم الأفكار المألوفة التي تعرض في الكثير من البرامج المدروسة بعلمية متقنة.
    كما يساعد التلفاز في تكوين اللغة عند الطفل و نموها تدريجياً، حيث يرتبط النمو اللغوي باستماع الطفل إلى كلام الآخرين في المرحلة الأولية من تعلمه اللغة، ويظهر أثر التلفاز في النمو اللغوي لدى الأطفال في العمر بين ثلاث و أربع سنوات، حيث أثبتت الدراسات أن الطفل في هذا السن يستوعب 20% من مسار الأحداث الواردة في البرامج.
     إلا أنّ الأمـر ليس سواء أمام كل ما يعرض على شاشة التـلـفـاز، إذ أن هــناك مـن الـبرامج غـيـر المخصصة للأطفال، أو تلك المخصصة لهم دون فائق دراسة وعناية بمحتواها، تلك البرامج تؤثر في تأخر تعلم اللغة عند الأطفال، وكذلك تؤخر نموها في المرحلة الأولى من حياتهم، خصوصاً في البرامج التي يتعدد فيها الأشخاص المتحاورون في المشاهد، و الذين يدور الحوار بينهم بسرعة نسبية تفوق قدرة الصغير على استيعابها.
كما أن اللغة التي تحتاج لتثبيتها و نموها محادثات حوارية بين الأشخاص؛ لا يتأتى للأطفال الاستفادة منها أمام التلفاز؛ حيث لا حوار بينهم و بين تلك الشخصيات في صندوقهم السحري، و تتضافر هذه الأمور مع أخرى فيسيولوجية لتؤثر سلباً في انطلاق النطق السليم و المبكر عند الأطفال.
 وللحيلولة دون هذا الأمر، على الأهل و المربين ترك أطفالهم يتكلمون أمام الشاشة بدلاً من الطلب منهم الصمت و الإصغاء أمامها، على العكس، يجب أن يتكلم الطفل و أن يشرح شفوياً تصرفات الأشخاص، و مجرى الأحداث التي تدور أمام ناظريه، أو أن يقوم الكبار بهذا الدور؛ بالإضافة إلى توقع الأحداث اللاحقة، و تسمية الأشياء المشاهدة على الشاشة بمسمياتها.
     أما من ناحية النمو المعرفي عند الطفل، فللتلفاز أثر إيجابي في ذلك خصوصاً عند الأطفال في سن 3 ـ 4 سنوات، و ذلك إن شاركت الأم أو المربي أطفالهم في مشاهدة البرامج المدروسة بعناية مع مناقشتهم حول معلوماتها، و خصوصاً أن التلفاز يقدم للأطفال معلومات عن أمور لم يروها، ويُعرِّفُهم بأماكن لم يسبق أن زاروها، كما يقدم إليهم معلومات كانوا سابقاً يجهـلونهـا.
     ويعـمل التلفاز على تقديم نوع جديد من المطالعة؛ ألا و هو المطالعة الخيالية المرئية، وذلك في سن مبكرة تسبق سن تعلم القراءة و الكتابة، فالتلفاز ـ ببرامجه الإيجابية المقننة ـ يقدم مادة مشوقة مفيدة يمكن قراءتها دون قراءة، و هضمها بصورة أكبر؛ خصوصاً أنها لا تتطلب مجهوداً كبيراً كالذي تتطلبه كتب المطالعة لتوضيح النصوص و فكّ الخط، إذ أن الطريق إلى النص في التلفاز مباشر، و الصورة فيه تتحدث عن نفسها.
كما يشجع التلفاز على القراءة من أجل التعمق في فهم الأحداث و البرامج التي تعرض على الشاشة الصغيرة؛ إلاّ أنّ مشاهدة التلفاز إن تجاوزت المعايير يمكن أن تقلب الأمر رأساً على عقب؛ و ذلك بسبب استسهال الأطفال استقاء المعلومات من التلفاز، و قضائهم وقتاً طويلاً جداً أمام شاشته، مما يعمل على: إدمان التلفاز ـ و هذا هو الأمر الخطير ـ، و الحدّ من المطالعة حاضراً و مستقبلاً، و كذلك الحدّ من الإستفادة من الوسائل المعرفية الأخرى: كالنشاطات الثقافية، و القراءة، واللعب المثمر، وارتياد المكتبات... إلخ.
     ومن ثمار مشاهدة الأطفال البرامج التلفازية الإيجابية يمكن أن نذكـر أيضاً: تنمـية خـيال الطـفل و تغـذية قـدراتـه؛ بما شاهده من مشاهد إيجابية تزرع فيه بذور إبداع و تُهيؤه له قريباً، و تعلمه أساليب مبتكرة و متعددة في التفكير و الأسلوب.
     ولقد ظهر في السنوات العشر الماضية مصطلح جديد في صناعة التلفزة الغربية؛ ألا و هو (التربية الترفيهية) تلك التي تُعرَّف بأنها: الدمج الناجح للتربية في بيئة التلفاز الترفيهية؛ حيث يتفاعل التلفاز و المربون لتقديم نموذج تعليمي تفاعلي بين الطفل و التلفاز، من خلال بث ترفيهي تعليمي يوفر أساليب فردية ممتعة و متطورة، بل ومبتكرة تكمل طرق التعليم التقليدية ؛ مما يثري حياة الأطفال و يقدم لهم برامج تُخاطِبُ عقولهم، و تستمطر أفكارهم، و تؤهلهم لتبادل الأفكار ووجهات النظر مع من يكبرونهم سنّاً.
     وكما للتلفاز آثار إيجابية على أبنائنا، فهو ذو آثار سلبية كثيرة عليهم أيضاً، بل هناك من المختصين من رأى أن سلبياته تفوق إيجابياته بكثير ـ نكرر: إن لم تُتوّج مشاهدة الأطفال للتلفاز بالمعايير الإيجابية.
     إذ أثبتت الكثير من الدراسات أن الأطفال يكررون السلوك الذي يشاهدونه في التلفاز؛ فهم بطبيعتهم ينتهجون التقليد في حيـاتهم و تعلمهم، و إنهم بمشاهدتهم برامج العنف يترسخ عنـدهـم الـسلوك العـدواني العنـيف، إلاّ أنّ الأمـر لا يظـهر دائماً بوضوح كبير، إذ أنَّ هناك ظاهرة تَعَرَّف عليها كل من: (كاجان) و (موسن) في الستينات من القرن الفائت؛ ألا وهي ظـاهـرة (التأثير النائم) و التـي بموجبها يـتأثر الطـفل بمشـاهـداته التي عاشها مع التلفاز؛ و لكن نتائج هذا التأثر قد لا تظهر عاجلاً و مبـاشـرة، بل تظـل نائمـة فتـرة طويـلة، منتظرة عوامل خارجية عند الطـفل كي توقـظها مـن رقـادها و سباتها العميق، لتظـهر على السطح فيما بعد في مرحلة البلوغ أو المراهقة أو في الكبر، أي أنها أحياناً لا تظهر إلا بعد تأثير المؤثرات بسنوات عديدة.
 لذا لا نتـوقع أن نلمس السلوك العدواني في الأطفال مباشرة بعد تعرضهم لمشاهد عنف تلفازية، و إن ظهر العنف مباشرة فليس ذلك بسبب المشاهدات الحية فحسب؛ و إنما أيضاً هـناك عـوامـل خارجية تتعلق بالطفل، اجتمعت مع مشاهد العنـف فولَّدت عنده السلوك العدواني، و قد تولِّد أيضاً الانحراف والعدوان.
    ومن تلك العوامل التي تتضافر مع مشاهد العنـف المعروضة على التلفاز فتؤثر في الطفل سلبياً، نذكر: الفقر الحادّ، معـدل الذكاء المنخـفض للطـفل، الوضع العائلي أو النفسي أو الجسدي غير الطبيعي للطفل، طبع الطفل الهجومي الشرس، و كذلك استحسان الأهل لبرامج العنف وإدمان مشاهدتها، كل ذلك مع المشاهدات التلفازيّة العنيفة يودي بأطفالنا إلى عنفٍ سلوكيِّ عمليِّ آنيِّ، أو مستقبليِّ ممكن.
     كذلك هناك عامل هام آخر يمكن أن يؤثر في اكتساب الأطفال السلوكيات العنيفة و اللامحمودة في حياتهم ؛ ألا و هو عامل التكرار، فتكرار حدوث المثيرات لفترة طويلة ولمرات عديدة هو الذي يُحدِثُ التأثير السلبي (أو الإيجابي إن كان المثير إيجابياً) في الطفل، فيظهر في سلوكه. ناهيك عن أن كثافة العنف المشاهد على التلفاز يمكن أن تؤدي إلى طمس الإحساس الإنساني بآلام الآخرين، أو على الأقل إضعافه.
و ينسحب تأثير مشاهدة الأطفال لمشاهد العنف على مشاهدتهم الأمور السلبية الأخرى على شاشة التلفاز، مثل: مشاهد الجنس، و إدمان المخدرات، و شرب الخمور، والتدخين ... إلخ.
كما يُعد التلفاز من الوسائل التي تهدر وقت الأطفال إن تجاوزت المشاهدة الحدود المسموح بها، إذ ينصح الأطباء على: ألاَّ يزيد وقت المشاهدة على ساعة ونصف يومياً في أمريكا، فكيف إن تجاوز الأربع ساعات يومياً في حياة أطفالنا؟! إنّ هذا الأمر يؤثر سلباً على الأمور الأخرى التي بإمكان الطفل التمتع بها لو تجنب إدمان التلفاز لأوقات طويلة، مثل: المطالعة و الرياضة، و اللعب، و المشاركات الاجتماعية ... إلخ، تلك الأمور التي من شأنها تعزيز النمو السويّ لمخ الأطفال و بزوغ المواهب، و على رأسها التفاعل الاجتماعي مع الآباء و الإخوة و الأقران.
ولقد أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين يمكثون أمام التلفاز لفترات طويلة أكثر عرضة لزيادة الوزن؛ بسبب قلة الحركة، و تناول المكسرات و الوجبات الخفيفة و المشروبات، دون اكتراث أثناء مشاهدته.
     كذلك، فإن الاستثارة الزائدة للمخ الصغير في الكثير من برامج التلفاز سريعةِ الإيقاع و الصاخبة ترهق خلايا المخ، و تعيق نمو الطفل السويّ ؛ بل و تعيق استفادة المخ من المؤثرات ذات الإيقاع العادي في باقي نشاطات الحياة؛ حيث يكون المخ قد اعتاد الإيقاع السريع و الصاخب، فلا تحظى المؤثرات عادية الإيقاع بمستوى التركيز والاهتمام ذاته عند الطفل، خصوصاً عند مشاهدة برامج العنف، أو المشاهدات الليلية الأخرى التي تسـبق النـوم مباشـرة، و يكون تأثير التلفاز أكبر في أطفال ما قبل المدرسة الابتدائية، حيث توصل العلماء إلى: أن الطفل في سن الثالثة يكون عاجزاً عن التمييز الدقيق بين الشخص و الموقف الذي يوجد فيه، حيث لايزال الأنا غير ناضج، لذا فكثيراً ما يُعمِّمُ الطفل تجاربه على الآخرين، فيكون عنده خلط بين المشاهد التلفازيّة و الواقع، و بذلك نجد أنّ كلما كان سن الفرد صغيراً كلما صعب عليه ـ لقلة خبرته ـ الفصل بين واقعه و الخيال الذي يشاهده على شاشة التلفاز، ممّا يجعل الأشياء الخيالية التي يعرضها التلفاز أمام الأطفال صغيريّ السن عالماً حقيقياً و واقعياً بالنسبة لهم، فيصبح ما يشاهده جزءاً من حياته الخاصة، لذا فالقصة المخيفة و الفيلم المرعب قبل النوم يؤدي به إلى كوابيس و توترات ليليّة تؤرق نومه، و تؤثر على صحته، و ممّا لا شك فيه أن تكرار و استمرارية هذه التوترات أمام الطفل يؤدي إلى أن تصبح من مكوناته السيكولوجية في الطفولة، و بالتالي جزءاً من سلوكه و شخصيته في الكبر، ناهيك عن أن الإفراط في مشاهدة التلفاز يؤدي إلى قصر زمن الانتباه لدى الأطفال، و يقلل من قدرتهم على التعليم الذاتي.
     وفي هذا السياق، يقول باحثون أمريكيون: إن كل ساعة يشاهد فيها الأطفال ـ قبل سن المدرسة ـ التلفاز يومياً تُعَرِّضُهم لاحتمال الإصابة بقصور في الانتباه مستقبلاً بنسبة 10%، كما يمكن أن تساهم أشعة التلفاز بالإضرار بصحة العينين، و تعويد الكسل و الخمول، و تعويد الطفل ـ أيضاً ـ التلقي دون المشاركة، أي التعليم السلبي الذي يأتي للطفل بكل شيء جاهزٍ، دون أن يدع الفرصة له بأن يشارك و يحاور، أو يقدم الأفكـار... إلـخ، و بذلك يمـكن لبعـض البرامج ـ في حال إدمان التلفاز و عدم مشاهدته وفقاً للمعايير المنصوح بها علمياً ـ أن تعيق النمو المعرفي الطبيعي، و ذلك؛ لأنّ العلم لا يتأتّى إلاّ بالمشاركة و البحث و الطلب و الحوار.
     كما أن للتلفاز دوراً في إضعاف روح المودة و التقارب بين أفراد الأسرة، حينما ينشغلون عن طقوسهم الاجتماعية بمتابعة التلفاز، هذا و إن إهمال الأطفال و حثهم على مشاهدة التلفاز كلما ضاق ذرع الأهل بهم يجعل من التلفاز مربياً ثالثاً بعد الأب و الأم، لكـنه مـربٍٍ مجهـول غامـض، لا نضمن حُسْنَ تربيته، و لا صدق معلوماته، و لانواياه الصالحة، فها هي الدراسات تثبت أن التلفاز يتمتع بقدرة فائقة على انحراف الأطفال و الناشئة عن ممارسة بعض أنواع السلوك التي تعتبر عناصر أساسية في عملية التنشئة و التطبع الاجتماعي، كما يلعب التلفاز دوراً مهماً في زيادة حدة صراع القيم بين عالمهم و مجتمعهم، و المجتمعات الأخرى ؛ و ذلك بسبب القيم و المعتقدات و السلوكيات الخاصة بمجتمعات بعيدة عنّا اجتماعياً تعرض على شاشاتنا باستمرار، خصوصاً في زمن العولمة التلفازيّة و عصر الفضائيات، و يرى الأستاذ سعد لبيب في مقال حول (الدور التثقيفي للإذاعة والتلفاز: ( أن التلفاز والمداومة على مشاهدته من شأنها أن تؤثر سلبياً على ثقافة المشاهدين و سلوكهم، و أن تسلبهم القدرة على التفكير الصحيح، فإدراكهم للعالم يكون من خلال ما تعرضه الشاشة الصغيرة، فهي التي تفكر لهم، و هي التي تختار لهم الموضوعات التي تحظى باهتمامهم، و هذا الذي يعرضه التلفاز في كل أقطار الدنيا ليس منزهاً عن الغرض دائماً، فالبرامج تصاغ وفقاً لرؤية أصحاب السلطة، أو أصحاب المال الذين يتولون شؤون إنتاج هذه البرامج.
 هذا، و تؤثر الإعلانات التي تعرض على شاشة التلفاز كثيراً على أطفالنا، فالإيجاز في الإعلان يتلاءم مع مَلَكَةِ انتباه الأطفال التي لاتتحمس، و لا تهتم بالتفاصيل و التوسعات المطولة، كما أنّ التكرار الذي يحدث في اللقطات الإعلانية و يتردد كل يوم، ينقلب بسرعة إلى لعبة مسليّة بالنسبة للمشاهد الصغير.
     وقد أصبح واضحاً أثر الإعلانات التجارية الجذابة و الملحة، التي يقدمها التلفاز على مدار الساعة، على سلوك الطفل الغذائي و الشرائي، إذ يعمل الطفل على ترويج غايات الإعلان في أشكال متنوعة، إما بانتظاره بلهفة، أو بطلبه، أو ببكائه الملحّ عند تخطي الإعلان، أو عند إقفال جهاز التلفاز في موعد بثّه.
     كما يعمل الطفل على إلزام الآخرين بتنفيذ غايات الإعلان؛ إذ يستغل عاطفة محبيه ليحصل على ما يسعده و يرضيه من أمور شاهدها خلال الإعلانات.
     كل هذه الأمور يترتب عليها من النتائج السلبية على الأطفال ما يفوق تصورنا، و لمقاومة الخطر، و لأننا لا نستطيع غالباً تجنب وجود التلفاز في بيوتنا، و لأن للتلفاز بعض المزايا الإيجابية الجديرة بالاعتبار، بسبب ذلك كله؛ وضع المختصون مجموعة من النصائح و المعايير التي من شأن التَقيُّدِ بها لجمُ ضرر التلفاز ما أمكن، و فتح باب محاسنه، و من هذه المعايير، نذكر:

1. احترام رأي الطفل الذي يرغب بمشاهدة التلفاز ؛ لكن بتحديد وقت المشاهدة، و عدم تركه ساعات طويلة أمام التلفاز، كل ذلك عن طريق الحوار والنقاش و الابتعاد عن الإجبار و الإكراه، مع العلم بأنّ هناك العديد من الدراسات العلمية الحديثة التي توصلت إلى الحد الأقصى المسموح به للأطفال لمشاهدة التلفاز حسب أعمارهم، و ذلك كالتالي:
من سنتين إلى 4 سنوات،20 دقيقة.
من سن 3 إلى 5 سنوات، 30 دقيقة.
من سن 10 إلى 13 سنة، 60 دقيقة.
و إنّ تجاوز هذه الفترات يمكن أن تتسبب في زعزعة توازن مشاعر الطفل، و انخفاض مستواه العلمي... إلخ.
2. عدم استخدام التلفاز كأسلوب عقاب أو مكافأة؛ لأن هذا الأمر يجـعل من التلفـاز شيـئاً بالغ الأهمية في نظر الطفل، مما يزيد اهتمامه به، و يعطيه أكثر مما يستحقه.

3. يجب عدم التعامل مع التلفاز على أنه جليس أطفال؛ بل على الأهل مشاركة أطفالهم مشاهدة البرامج المخصصة لهم، و مناقشتهم حولها، و مساعدة الأطفال على تجاوز الجوانب الضارة للبرامج دون ترك بصمات سلبية في العقل أو الوجدان، و يجب أن يختار الأهل البرامج التي يشاهدها أطفالهم بالتوافق معهم، مع محاولة توجيههم للبرامج التعليمية و تجنب البرامج المحتوية على مضامين غير مناسبة: كالعنف، و الجنس، و القيم، و العادات التي تتنافى مع قيمنا.
     وعلينا عندما نشاهد برامج تلفازيّة مع أطفالنا مساعدتهم على التفاعل الحسي مع ما شاهدوه، و إيضاح العلاقة بين ما يقدمه التلفاز و حياتنا اليومية، و إن كان لا بد من ترك الطفل بمفرده أمام التلفاز، فيمكن أن يكون ذلك بعد التأكد من أن البرنامج الذي يشاهده يساعده، وينمي مهاراته و لايؤذيه.

4.  تجنــب جميع أفراد الأسرة تناول الطعام أو الوجبات الخفـيـفة أمـام التـلـفاز، إلا مـا حـدّد منـها بمـقـادير و كميات لا ُيسمح تجاوزها.
5.  تشجيع الأطفال على القيام بنشاطات متنوعة؛ لتنمية قدراتهم العقلية و الوجدانية كبديل لمشاهدة التلفاز.

6. تعليم الأطفال أنّ الهدف من الإعلانات التجارية هو الترويج لبضائع قد لا تكون جيدة، و أن ليس كل مانراه على الشاشة علينا أن نقتنيه، فليس كل ما يلمع ذهباً.
7. عدم السماح للأطفال أن يقتنوا جهاز تلفاز خاص بهم في غرفهم، فمن شأن هذا أن يطلق العنان لهم في استخدامه و مشاهدته كلما أرادوا دون رقيب.
8. أثبتت الدراسات أن التلفاز لا يفيد الطفل الذي يقل عمره عن سنتين، و أنه من المفضل أن يقضي الطفل في ذلك العمر وقته في تنمية المهارات اللغوية و التفاعل الإيجابي مع المجتمع الذي يعيش فيه، لذلك توصي (الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال) بعدم تشجيع تلك الفئة العمرية من الأطفال على مشاهدة برامج التلفاز، حتى و لو كانت رسوماً متحركة، بل و ذهبت بعض الدراسات إلى منع هؤلاء الأطفال منعاً باتاً من مشاهدة التلفاز؛ لما يسببه في استثارة انتباههم لفترة طويلة، مما يؤثر سلبياً على تركيزهم و صحتهم الدماغية مستقبلاً.
     و بعد، علينا أنْ نعلم أنْنا ـ الأهل و المربين ـ القدوة لأطفالنا في مشاهدة التلفاز، فما يثير اهتمامنا يثير اهتمامهم، و تعلقنا الكبير بالتلفاز يخلق التعلق نفسه عندهم. و يجب أنْ نعي قبل أي شيء: أن الحب، و العاطفة، و التربية السليمة من قبل الوالدين و أفراد الأسرة هي الكفيلة بحفظ توازن شخصية الطفل لمنعه من الانحراف، و من الإصابة بالأمراض الاجتماعية، و تجنيبه أخطار التلفاز؛ بل و أخطار الحياة كافة.
     فلنخـلق من بيوتنا واحاتٍ تربوية وتعليمية واجتماعية صالحة لنمو الخير في نفوس أطفالنا، و لنكن لهم المثل الصالح و المنهل الصافي في كل ما يتعلمونه في حياتهم، قاصدين من ذلك تربية نشء سليم من النواحي كلها نعوّل عليه في بناء المجتمعات الصالحة.

                                         عبير العقاد، مجلة البيان، العدد 229



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق