الاثنين، 16 يوليو 2012

المَعَرّي.. الذي لَمْ يَجْنِ على أَحَد!!

المَعَرّي.. الذي لَمْ يَجْنِ على أَحَد!!
          قالها بيتا من الشعر, فذهبت مثلا, وفيها, لخص أبو العلاء المعري فلسفته في الحياة, التي ظل دائما يرفضها ويدعو الآخرين إلى رفضها, دون أن يقوى على رفض أحد أحلى مباهجها على الإطلاق.. الشعر.
          فقد كان أبو العلاء المعري الذي ولد في معرة النعمان, في بلاد الشام, عام 363 هـ (973 م) باسم أحمد بن عبدالله بن سليمان التنوخي, شاعرا احتل مكانته المتميزة جدا في ديوان الشعر العربي, وفقا لترتيب خاص جعله لا يشبه أحدًا, ولا يشبهه أحد بالرغم من كثرة المتشبهين به فيما بعد.
          وربما كانت ظروف نشأة المعري الخاصة السبب في خصوصيته الشعرية والمسلكية فيما بعد, فقد أصيب المعري بمرض الجدري في سنوات طفولته الأولى, وما لبث أن فقد بصره, لكن هذا كله لم يمنع شاعريته من التفتح المبكر في حقول أدبية, بدت منذ بداياتها غير مطروقة تقريبا, خاصة أنه بدأ رحلة التثقيف بداية مبكرة على يد والده, الذي توفي قبل أن يبلغ الشاعر الرابعة عشرة من عمره, مما جعله يسافر إلى بغداد طلبا للعلم, وتشوقا لمجالسه الزاهرة هناك آنذاك. لكنه لم يبق فيها سوى عامين قبل أن يرجع إلى موطنه للقاء أمه المريضة, والتي لم يقدر له أن يراها, فقد رحلت قبل أن يصل مما جعله - تحت وطأة الحزن الشديد عليها, وشعوره بالتقصير تجاهها - يعتزل الناس في داره رهينا لها ولعاهته, حيث رأى فيها محبسيه الأبديين.
          لكن هذين المحبسين لم يستطيعا إعاقة الشاعر - المثقف بما هو فوق ثقافة عصره - عن التفاعل مع قضايا ذلك العصر السياسية والاقتصادية, فكتب فيها مخلصا لذاته المستكينة, ولنفسه المتعففة, فوثق - شعريًا - الكثير من المعارك بين العرب والروم, كما عبر عن ضيقه وتبرمه من فساد رجال عصره من السياسيين, وأشار إلى كثير من ظواهر الصراع الفكري والمذهبي في ذلك العصر, مما أثار نقمة الكثيرين ممن حوله من الشعراء والأدباء المستنفعين, الذين أثاروا حوله الكثير من غبار الأقاويل والتهم التي تنال من عقيدة المعري, ورؤيتهم للحياة والبشر بما لم يعتد عليه الناس من شعراء ذلك العصر كثيرا. وقد ساعدهم في ذلك سلوك المعري في حياته الخاصة, ومنه أنه حرم على نفسه تناول اللحوم ومشتقاتها, مما جعله أحد أشهر النباتيين في التاريخ, وأنه اعتزل الناس رهينًا لمحبسيه مدة أربعين عاما بالإضافة إلى رفضه الزواج رفضا قاطعا حتى لا يجني على أحد, كما جنى عليه أبيه, كما كان يردد. لكن المعري كان دائما قادرا على الرد على كل هذه التهم التي ذهبت أدراج رياح الحقد والنميمة الشعرية, ولم تصمد أمام شاعرية رجل لم يخش إلا الله, لم تعن له الحياة سوى المزيد من القوافي الباهرة السبك, والأبيات الشائكة الصياغة, والشعر المعجز في معانيه ذات الطابع الفلسفي التي لم يسبقه إليها أحد من الشعراء العرب. ولعلهم لم يكونوا منشغلين بها كما انشغل المعري بها, وجعلها مقياسا للحكم على الشعر والشاعرية, والشاعر في كثير من الأحيان. ولهذا فقد كانت متكأه في تبيان منهج نقدي طبقه على شعراء عصره ومن سبقهم. ووفقا لهذا المنهج الصارم في النقد لم يخف إعجابه الكبير بالمتنبي, ولا سخطه الأشد على البحتري. وله مع الأول حكاية تستحق أن تروى, وفي الثاني كتاب يستحق أن يذكر.
          أما الحكاية فتقول إن أبا العلاء كان في مجلس المرتضي, شقيق الشاعر الشريف الرضي, ذات يوم, وجاء ذكر المتنبي, فتنقصه المرتضي وأخذ يتتبع عيوبه ويذكر سرقاته الشعرية, فقال أبوالعلاء: لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: (لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه فضلاً.
          فغضب المرتضي, وأمر به; فسُحب من رجليه حتى أُخرج مهانًا من مجلسه, والتفت لجلسائه قائلاً: أتدرون أي شيء أراد الأعمى بذكر تلك القصيدة? فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكره. قالوا: النقيب السيد أعرف! فقال: إنما أراد قوله:
وإذا أتتك مذمَّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنِّي كامل

          أما كتابه في البحتري فكان بعنوان (عبث الوليد) حيث لعب على اسم الشاعر الأول (الوليد) معتبرًا أن كل ما كتبه مجرد عبث كعبث الوليد الصغير!. ولم يكن هذا الكتاب هو كتابه النثري الوحيد, فكتبه الأخرى كثيرة منها: كتاب (الأيك والغصون) في الأدب, (تاج الحرة) في النساء وأخلاقهن وعظاتهن, و(رسالة الملائكة), و(رسالة الغفران), و(الفصول والغايات), و(رسالة الصاهل والشاحج). بالإضافة إلى ثلاثة دواوين شعرية هي: (لزوم ما لا يلزم) ويعرف باللزوميات, و(سقط الزند), و(ضوء السقط).
          عند رحيل أبي العلاء عن الدنيا عام 449هـ (1057م) وقف على قبره 84 شاعراً يرثونه, معترفين بخصوصيته التي جعلته يرفض الوقوف على باب حاكم مادحا, على عادة زملائه, حيث كان يقول: (وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب, ولا أتكثر بلقاء الرجال, ولكن آثرت الإقامة بدار العلم, فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزمن بإقامتي فيه(


تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه




هناك تعليقان (2):