بعد نحو قرن من الحياة العملية الخصبة
والعلم التاريخي
الباهر، طوى العالم العربي صفحة واحد من
أنجب مؤرخيه، هو الدكتور نقولا زيادة (ولد في الثاني من ديسمبر
1907م وتوفي في السابع والعشرين من يوليو 2006م). لكن كُتب ذلك الرحالة في جغرافيا وتاريخ وطنه العربي الكبير تحتاج منا إلى
معاودة قراءتها، ليس
فقط للاستمتاع بلغته وأسلوبه، وإنما
لكونه أحد القلائل الذين احترموا ماهية التاريخ، ومدرسته،
التي تحتمل الشك بقدر احتمائها باليقين. لقد اختط العلامة زيادة لنفسه مدرسة جمعت بين حرصه على أن يكون ابنًا نجيبًا لكبار
رحالتنا العرب، مثلما
أسس لنفسه نهجًا جعله ابنًا بارًا في
مساءلة أوراق التاريخ ووثائقه وأدبياته بالمنطق والبرهان.
- كانت الرحلة
عنصرًا قويًا في حياة المجتمع الإسلامي في عصوره الزاهرة، رحل الناس لزيارة مهبط الوحي، وفي
طلب العلم وفي سبيل الاتجار. أضف إلى كل ذلك رحلة الرسل
المترددين بين الملوك والأمراء، والمغامرين الواجدين في الرحيل لذة خاصة، والساعين في سبيل الرزق إذا ضاقت
بهم أرضهم، وجوَّابي الآفاق.
- أصبح العلامة
نقولا زيادة رحالة عصره القادم من المشرق العربي، وربما لا
يبزه سوى صنو آخر، هو علامة مغرب العالم العربي الدكتور عبد الهادي التازي،
حفيد ابن بطوطة، وهما - زيادة والتازي -
يثبتان أن الرحلة صنو للتاريخ.
- غني عن القول إن
حيادية نقولا زيادة تجاه جناحي أمته العربية في مشرقها ومغربها
تقطر من صفحات كتبه، فلم يدع منطقة إلا وكتب عنها، وهو يتبع أسلوباً متسلسلاً في البحث التاريخي، يبدأ
زمنياً بالأقدم، حتى يصل إلى ما هو معاصر، وهنا يبدأ
التداخل المطلوب بين ما دونته الكتب وما وثقته العين
- الألوان التي
خلعها المؤرخ الكبير على ثوب وعمارة ووجوه مراكش من جهاتها
الأربعة لتؤكد ذلك الحس الشاعري، والبلاغة الفذة، التي تلهمه من أجل كتابة توثيقية تبقى أثرًا حتى لو دَرَسَ
واختفى الأثر نفسه
شهد حي باب المصلّى، في دمشق، ميلاد
نقولا لأبوين فلسطينيين من
الناصرة، وانتقلت حياته الأولى من مسقط
رأسه في الشام إلى وطن أبويه في فلسطين. حين تخرج في سن السادسة
عشرة في دار المعلمين عمل عدة أسابيع مدرسًا في الناصرة وعكا عام 1925م، حيث كلف
بتعليم التاريخ والجغرافيا، ليمثل ذلك نقطة تحول في حياته فيتجه لقراءة كتب التاريخ ويتعرّف على بعثات التنقيب عن الآثار
الأجنبية في فلسطين، ويجعل
من نفسه «مؤرخًا تحت التدريب» وليبدأ
بمجلة المقتطف سنة 1930م، عن معركة مجدو، رحلة نشر، استمرت 75 سنة.
أنظر الآن إلى مكتبتي التي تضم سلسلة
كاملة صدرت في بيروت لأعمال
نقولا زيادة الكاملة، وأشعر بالحاجة
الملحة لإعادة النظر في كل صفحة منها، خاصة أن تلك الأسفار المدونة
مرآة لأسفار طافت بلدان العرب مشرقها ومغربها، فيما كان يسميه «اتصالات وتنقلات
ورحلات وزيارات» أتاحت له التعرف على الحياة بأرض الواقع، بجانب ما كانت تحمله الكتب والوثائق.
من الجغرافيا إلى التاريخ
يرى نقولا زيادة أن الجغرافي العربي
الإدريسي يمثل مدرسة خاصة،
فالخرائط التي رسمها كانت ذات أثر كبير
في تصوير الدنيا للأوربيين مدة طويلة بعد عصره، ويعتقد أن
الجغرافيين من العرب عرَّفوا قومهم ومن جاء بعدهم في الشرق والغرب بالعالم الإسلامي خاصة، ومع انطواء أيام الإدريسي وقف الابتكار
العربي في الجغرافيا، ولم يقم بعده من جاء بجديد سوى الرّحالين.
هنا يولي زيادة الأهمية القصوى للرحلة،
وأدبها، وفضائلها. فقد كانت
الرحلة عنصرًا قويًا في حياة المجتمع
الإسلامي في عصوره الزاهرة، رحل الناس لزيارة مهبط الوحي، ولقوا في
سبيل ذلك الكثير من صعوبات السفر التي تحمّلوها راضين مسرورين. ورحل الناس
في طلب العلم من قُطر إلى أخر. فقد كان العلم منتشرة مراكزه في أنحاء العالم الإسلامي، وطلابه كانوا يتحملون من المشاق في
سبيل الحصول عليه ما
يحملنا على احترامهم وإجلالهم. ورحل
القوم في سبيل الاتجار. فقد كانت الأسواق الإسلامية في مشارق
الأرض ومغاربها مرتبطة بعضها بعضًا كل الارتباط.
وكان التجار يحملون متاجرهم وسلعهم إلى
حيث يرجون الربح الوفير. إضف إلى كل ذلك رحلة
الرسل المترددين بين الملوك والأمراء، والمغامرين الواجدين في الرحيل لذة خاصة، والساعين في سبيل الرزق إذا ضاقت بهم أرضهم،
وجوَّابي الآفاق.
كل هذه نماذج من الرحلة عرفها العرب
والمسلمون، وقد شجعهم على
الاستزادة منها خضوع العالم الإسلامي
برقعته الواسعة لدولة واحدة
بادئ الأمر. فلما ذهبت الوحدة السياسية،
بقيت وحدة الدين ووحدة اللغة وهاتان ربطتا الحجاج وطلاب العلم ورسل السلاطين
وحملة البضائع وزعماء الصنائع فاحتفظوا بالصلة. بل لعل الرحلة كانت أقوى في عهد التفرق السياسي منها قبلًا لاعتياد العالم
الإسلامي درجة من
المعيشة. ونوعًا من الحياة ولونًا من التفكير
يحتم على أفراده الاتصال والاتجار والتبادل الفكري
والأدبي.
رحَّالة عصره
ومثلما دوّن كثير من رحّالي العرب أخبار
أسلافهم وتنقلهم، فذكروا
المدن التي هبطوها والمسافات التي
اجتازوها والصعوبات التي تغلّبوا عليها. ووصفوا البلاد وزرعها،
وقيّدوا مشاهداتهم عن صناعتها وتجارتها، وأتوا على وصف حياة السكان فعرضوا للطيب من عاداتهم بالمديح، وعابوا ما فيهم من ضعف، نجد
أن العلامة نقولا
زيادة قد أصبح رحالة عصره القادم من
المشرق العربي، وربما لا يبزه سوى صنو آخر، هو علامة مغرب العالم
العربي الدكتور عبدالهادي التازي، حفيد ابن بطوطة، وهما - زيادة والتازي - يثبتان أن الرحلة صنو للتاريخ.
وتبدأ رحلات زيادة بالأدبيات التاريخية،
حيث تمثل الرحلة في بطون
الكتب قراءة العقل للتاريخ، وهو يعرض
لقارئه مادة ثم يعقب، ويعلق ويشرح ويستنتج، ويتساءل: «المادة
التي نقلناها تتعلق بالأقوام ونماذج حياتهم ومعتقداتهم، لا تفصيليًا ولكن بشكل
عام، لأننا أردنا أن نحاول التوصل إلى أمر واحد، هو: هل يمكن أن نفهم الحياة البشرية لتلك الجماعات؟».
درسٌ من مؤرخ
وهنا يقدم زيادة درسًا في التحليل
للمادة التاريخية، مبنيًا على ما أورده في الرحلة عبر
الكتابة، بالسؤال عن نوع المادة التي حصل عليها، وكيف تصف حياة شعوب بلد أو منطقة، وكيفية الإفادة منها، مثلما شرح عقب تحليله
للسودان الغربي،
ويقصد به مناطق الحضارة الإسلامية في
غرب الصحراء الإفريقية، وهو يأمل أن يكون في عرضه فائدة تدريبية
له أولًا ولقرّاء الفكر العربي ثانيًا:
1) من الواضح أن هناك نوعين من أساليب
العيش سادا المنطقة، وهما نوعان متباينان: الأول
تحضنه الصحراء التي فيها مسافات تقطع في أيام وأسابيع دون عشب أو شجر أو حيوان أو حتى ماء. الحياة هنا تتمركز في بقاع محدودة
عددًا وضيقة مساحة. إذ
يقيم الناس حول ماء وقد يزرعون، ولكن في
أغلب الحالات لا يزرعون، وإنما يأكلون اللحم واللبن، وإذا
جاءهم التجار بحبوب أو أشياء أخرى أُطعموها.
2) في الساحل (السهوب الغنية) وفي المنطقة
الواقعة جنوبه أي السودان
الغربي، تقوم القرى والمدن أصلًا على
زراعة متنوعة الإنتاج. فالحبوب والخضراوات والفواكه موجودة
مستعملة. وفيما نجد أن القمح لا يأكله في بعض المراكز الصحراوية إلا الحكام وأهل اليسار، نجد أنه في السودان معروف لدى الجميع،
ولعل الجميع يأكلون
إن لم يكن يوميًا، ففي مناسبات كثيرة.
3) لكن الذي نحصل عليه من مصادرنا هو أن
سكان الصحراء وسكان السودان
يقوم النظام الاجتماعي عندهم على
القبيلة، الكلمة تتردد عند البكري وابن بطوطة، وهما اللذان تحدثا عن
السودان بتفصيل. لكن الذي نستطيع أن نقوله إن الرابطة القبلية هي في الصحراء أوضح وأقوى منها في السودان. إنها في الأولى تظل
رابطة دم وعنصر، أما
في السودان فترتبط بعض الشيء بالمكان
فتكسب بعض صفات الاستقرار.
4) وهناك مجموعة من الأشياء يمكن إجمالها
هنا باختصار. منها أن أسلوب
الاتجار كان أقرب شيء إلى المقايضة، وأن
الملح والذهب كانا أقوى أسس المقايضة منطقة بمنطقة لا سلعة بسلعة
دائمًا. وفي جهات تادمكة (من السودان الغربي) يضاف النحاس المسبوك أساسًا
لتصريف الأعمال التجارية. ولا نقرأ إلا فيما ندر شيئًا عن تسعير محدد وهو عندما يقال إن كذا من القمح يباع بمثقال من الذهب.
ومادمنا نتحدث عن نواح
شبه تجارية، فلنذكر أن الجمل كان سيد
الصحراء للنقل، والحصان كان موجودًا للأبّهة، فيما كانت الخيل توجد
عند حكام المدن السودانية، وكانت تظهر في الاحتفالات الكبرى. لكن الذي يجب ألا
يغيب عن البال هو أن المنطقة السودانية كانت تعتمد على الخيول التي تنقل إليها من الشمال.
وهكذا يجمع الرحالة والمؤرخ الكبير - في
عدة خلاصات ميسرة وموجزة - ما درسه هو نفسه في
سنوات، مما يجعل من كتاباته مرجعًا غنيًا، ومصدرًا أصيلاً للكتابة التاريخية.
جناحا الأمة العربية
غني عن القول أن حيادية نقولا زيادة
تجاه جناحي أمته العربية في
مشرقها ومغربها تقطر من صفحات كتبه، فلم
يدع منطقة إلا وكتب عنها، وهو يتبع أسلوبًا متسلسلاً في البحث
التاريخي، يبدأ زمنيًا بالأقدم، حتى يصل إلى ما هو معاصر، وهنا يبدأ التداخل المطلوب بين ما دونته الكتب وما وثقته العين.
وقد خص زيادة الخليج العربي بالكثير من
كتاباته، بدأت برصد منذ القرن الرابع للميلاد حين
كانت السفن الفارسية تتنقل من ميناء الأبلة إلى الموانئ الصينية، ووصول سفن
الصين إلى موانئ الخليج. ومن الطريف ورود إشارة إلى القراصنة الهنود في الخليج
نفسه وفي خليج عمان في تلك الأزمنة. وكيف كان لأهل البحرين وعمان سفن تمخر عباب البحار المجاورة في أيام الرسول صلى الله
عليه وسلم والخلفاء
الراشدين.
ومن دروس التاريخ استحضار حالات منه،
تشير ولو دونما قصد أو بيان، إلى مقارنات مطلوب
دراستها. فالازدهار الذي عرفه الخليج العربي في القرنين التاسع والعاشر للميلاد كان مدعاة للفخر والزهو، وقد عدَّد زيادة
أسبابًا كثيرة منها أن
الدولة العباسية، التي قامت في أواسط
القرن الثامن، كانت بطبيعة الحال تتجه شرقًا أكثر من اتجاه الدولة
الأموية التي كانت تتطلع نحو البحر الأبيض المتوسط. ومنها، على ما قاله الدكتور
جورج حوراني في كتابه عن الأسفار البحرية العربية في المحيط الهندي، أن استتباب
الأمن في الدولة الإسلامية من جهة ووجود دولة قوية في الصين، هي أسرة تانغ. وأخرى في الأقطار الجنوبية المحاذية لها - كل هذا
في القرون السابع
والثامن والتاسع - قد أدى إلى انتعاش في
التبادل التجاري بين منطقتين كانت كل منهما بحاجة إلى منتوجات
الأخرى الطبيعية والصناعية. وهو درس يعني أن الازدهار الذي تحقق كانت له أسسه، التي لو عادت لعاد مرادفًا لها.
وينهل زيادة من مصادر القرنين الثالث
والرابع للهجرة (التاسع والعاشر الميلاديين) الكثيرة،
التي ترسم صورة تكاد تكون صحيحة لما كانت عليه الحال في الخليج العربي في تلك
الفترة. فقد خلف لنا الجغرافيون العرب مكتبة قيّمة وضعت بين سنتي 850 و985
للميلاد، وكان من الأسماء اللامعة فيها، على الترتيب الزمني، ابن خرداذبه واليعقوبي وابن الفقيه والاصطخري وابن حوقل والمسعودي
والمقدسي. يضاف إلى
هؤلاء رحالون هم في الأصل تجار أو
قباطنة سفن خلفوا أخبارهم في مدونات مهمة بين سنتي 850 و950، منهم
السيرافي وبزرغ. والذي يمكن أن يؤخذ من دراسات الذين عنوا بتقصي أخبار أولئك
وهؤلاء أن الخليج كان مسرحًا لتجارة رابحة وحركة نشيطة. وأن الموانئ على شواطئه
كانت تنعم بالكثير من الخيرات. وما أكثر ما شغل الخليج العربي الجغرافيين والرحالين والتجار، ممن وصلت مدوناتهم الصحيحة
والصادقة والدقيقة على حد
قول نقولا زيادة.
وعرض زيادة لبعض الرحالين الذين مروا
بالخليج في العصور الوسطى وهم ناصري خسرو والمروزي
وابن البلخي وبنيامين وياقوت وابن بطوطة. وقد امتدت الفترة التي زار فيها هؤلاء
الرحالون الخليج والبلاد المحيطة به نحو ثلاثة قرون من ناصري خسرو في أواسط القرن
الحادي عشر إلى ابن بطوطة في أواسط القرن الرابع عشر للميلاد. وبعض هذه الصور التي خلفها لنا هؤلاء تنبض بالحياة. خاصة أن
الرحالة أنفسهم يمثلون
اتجاهات ونزعات مختلفة. فناصري خسرو
داعية والمروزي تغلب عليه النزعة الجغرافية والنظرة الاقتصادية
من حيث الدور الذي كانت تقوم به دول جنوب شرق آسيا، وابن البلخي وضع رسالة وصف فيها الجزء الجنوبي الغربي من إيران اسمها «فرس
نامه» وقد أتمها في
أوائل القرن الثاني عشر، وبنيامين رحالة
تاجر.
أما ياقوت فيصفه زيادة بأنه رحالة
معجمي، وهو الذي وضع لنا هذا التراث الضخم المسمى معجم
البلدان. والمروزي من أهل القرن الثاني عشر وقد خلف لنا معلومات قيمة عن الصين والأتراك وغيرهم من شعوب المشرق ومدن الخليج.
وفي المغرب يقدم نقولا زيادة وجهًا آخر
للرحلة، وهي الرحلة التي
يوثقها على قدميه بين ربوعها، فهو يقول
مثالاً:
"زرت مدينة مراكش مرات عدة، ودخلتها من
جهاتها الأربعة، أطللت عليها أول مرة من الشمال
وكانت الشمس قد توارت خلف الأفق، لكن نور القمر، وكان يومها بدرًا، خلع على
المدينة، وعلى غابات النخيل التي تحيط بها، روعة لا تنسى. وجئتها من الشرق في يوم قاظ وسطه حتى لقد خُيّل إلي أن الحر فيها لن يطاق.
ولكن ما إن دخلنا
غابتها ووصلناها حتى طابت لنا فيها الساعات،
وألقيت عليها نظرة من الجنوب، من جبال الأطلس الجنوبية،
فكان منظرها ساحرًا، وجلست يومًا على سطح مقهى النهضة، وكانت الشمس تجمع آخر
خيوطها الذهبية، فتجلت لي مراكش - تربة حمراء، تغطيها مذات الآلاف من أشجار النخيل الخضراء، وأبنية حديثة لجدرُها لون مثل لون
التربة - ويتلو ذلك
المدينة القديمة يدور بها السور الذي لا
يفارقها. فكان أن مددت إقامتي بها يومين إضافيين".
إن الألوان التي خلعها المؤرخ الكبير
على ثوب وعمارة ووجوه مراكش من جهاتها الأربعة لتؤكد
ذلك الحس الشاعري، والبلاغة الفذة، التي تلهمه من أجل كتابة توثيقية تبقى أثرًا
حتى لو دَرَسَ واختفى الأثر نفسه. فأهمية الرحلة هي في التقاط اللحظة، والاحتفاظ بها، هكذا عاشت رحلات العرب الأوائل، وهكذا
تطمح كتابة أدب
الرحلة إلى السمو لتكون وثيقة تاريخية.
ننظر إليه ، كمثال، يصف مدينة بني غازي بعد الحرب العالمية
الثانية:
"لما هبطت بنا الطائرة في مطار بَنينة،
وحملتنا السيارة إلى بني غازي، شعرت، إذ دخلت
المدينة، أنني أجتاز شوارع مدينة تعبة مضناة منهوكة القوى، ذلك أن البيوت كانت تحمل من آثار التخريب ما لم تستطع سنوات السلم
الخمس إلا على إصلاح جزء
صغير منه. ولا غرابة في ذلك، فقد شهدت
بني غازي خمس مرات تغيّر أيدي المحاربين في الحرب العالمية
الثانية".
وقد عني زيادة بالتفاصيل، وبرسم خريطة
الرحلة، ليخرج من الخاص إلى
العام، ومن تلك الدقائق إلى عظائم
الاستنتاجات:
"ركبت عربة دارت بي حول سور المدينة، من
باب الراحة في الغرب مرورًا
بباب دكالة، ثم بموضع باب فاس في
الشمال، ثم باب الخميس وباب الدباغ، وهو من آثار الموحدين، وباب أغمات
(وهذه جميعها في الشرق)، ثم دخل بي الجوذي عبر أزقة ضيقة نظيفة، حتى عاد بي،
عن طريق باب الرُّب وباب أغنو الغني بزخرفه ونقوشه، وباب المخزن إلى باب الراحة. وقد كانت هذه الدورة من أمتع الزيارات التي
عرفتها في زيارة مدينة
من مدن المغرب العربي. والسور الذي درت
حوله مزيج تاريخي، من عهود مختلفة تمتد من القرن السادس
الهجري/الثاني عشر الميلادي، إلى القرن الثالث عشر الهجري/التاسع عشر الميلادي. والأثر الذي تتركه مراكش في نفس الزائر الذي يحاول
أن يفهم روح المدينة
عبر تاريخها هو أنها قامت عاصمة لدولة
إسلامية أرادت، قبل كل شيء، أن تعلي كلمة الإسلام في تلك
البقاع - في جنوب المغرب الأقصى - هي دولة المرابطين. وجاءت بعدها دولة الموحدين لتزيد في قيمة المدينة رفعة، فجعلت منها لا
عاصمة لدولة شملت
المغربين الأقصى والأوسط وإفريقيا
(تونس) وطرابلس فحسب، بل جزءًا كبيرًا من إسبانيا أيضًا. وكانت مراكش
تدل على ذلك بشكل لا يقبل الشك أبدًا. فكل ما بني يومها كان ضخمًا قويًا عظيمًا
واسعًا فخمًا جميلًا أنيقًا بسيطًا، يتفق مع الروح التي كانت وراء قيام هاتين
الدولتين".
سؤال الهوية
ولا يخفى على أحد أن مؤرخًا بهذه القامة
كان أحد دعاة القومية
العربية، وأحد مناصريها، وأكثر المؤمنين
بوحدة الأمة العربية، وما سعيه إلا ليؤكد ذلك كله. وهناك قصة
تروي سيرة هذا السعي.
في المغرب الإسلامي يلتقي بالشيخ البشير
الإبراهيمي، رئيس جمعية
العلماء المسلمين في الجزائر، ويعد
زيادة أول من كتب عن هذه الجمعية في المشرق. تنشأ بينه وبين الشيخ
البشير صداقة. وفي سنة 1970 يزور نقولا زيادة تونس فيعرف أن الشيخ البشير هناك،
وكان مريضًا، فيزوره، ويطلب منه أن ينحني ليغمره بقبلة، وبعد سنوات (1978م) يزور
زيادة الجزائر لحضور مؤتمر عن ابن خلدون، فيلتقي ابن صديقه، أحمد الإبراهيمي،
وكان وزيرًا، فيخبره الابن بما كان والده يحدّثه عنه ويسر زيادة أن هذا الشيخ الجليل تذكر هذا الزائر العربي من المشرق.
أي أن الزيارات والصداقات المتبادلة
جعلت من هذين القطبين قريبي
الصلة، مما جعل لقاءهما أمرًا مسلمًا به
حين يزور زيادة تلمسان، وتدور أمسية في منزل التاجر الحاج بن
يونس، تجمع المؤرخ، مع الشيخ، وفئة من أعضاء الجمعية. يقول زيادة:
"لعلنا كنا جميعًا نحو الدزينة (12)، بدأ
الاجتماع حوالي الثامنة
مساء، وطُعمنا خير زاد، ودار الحديث حول
القومية العربية. اتفقنا من أول الأمر أننا لن نحاول الإقناع
بصحة القضية القومية ولا بعمقها. كانت الفكرة توضيح هذا الذي ندعو إليه في المشرق ومعناه وغايته. تناقشنا إلى بعيد منتصف الليل،
وكان آخر ما قاله
الحاج بن يونس هل تنتظر مني إذا كانت
هناك مشكلة وقعت لك، وأخرى مماثلة وقعت لباكستاني، أن أهرع
إلى مساعدتك قبل الباكستاني لأنك عربي مع أنه مسلم؟ قلت: لا أمنعك طبعًا من
مساعدة الباكستاني، لكنني أود أن تشعر أنني أقرب إليك بسبب العروبة من الباكستاني المسلم، الذي ليس عربيًا. فقال - وكان قوله فصل
الخطاب في حديث تلك
الأمسية الطويلة المفيدة - لا،
الباكستاني المسلم أقرب إليّ منك"!
يقول زيادة إن الحاج بن يونس ليس
الجزائر بأكملها، ولو كان له مشايعيون وأنصار
ومؤيدون، ويقول أيضًا إن الشيخ البشير الإبراهيمي كان مسلمًا عربيًا، وأن شعار
جمعية العلماء المسلمين في الجزائر كان:
"شعب الجزائر مسلم
وإلـى العروبة ينتمِ"
وإلـى العروبة ينتمِ"
وما أشبه الليلة بالبارحة، حيث يتجدد
السؤال نفسه عن الهوية، في خضم ما نشهد اليوم من
حراك كبير في خريطة الوطن العربي المتحول إلى أسلمة الحكومات. وكأن العروبة ضد الإسلام، وهو أمر بغيض لا يدعمه تاريخ، أو
يؤكده تأريخ.
فعين الرحلة وعقل التاريخ يقوداننا إلى
أن نعي الدرس الذي قسمنا في
الماضي، وشتت جهدنا، لنستبدل به الوحدة،
والإخاء، والتسامح، تحت حرية فكرية وديمقراطية حياتية
تسمح للعروبة بأن تحمي نفسها تحت راية الإسلام، وتسمح للحضارة الإسلامية بأن تتجدد بلسان عربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق