عاش الإنسان الأول في كهف ثم خيمة، وتمتع سلفه
بالحياة في قصور امتدت في مساحات واسعة، بينما حبس أجدادنا أنفاسهم مع ارتفاع
ناطحات السماء وتاه أباؤنا فخرًا أنهم توصلوا لناطحات السحاب، حتى وصل الإنسان إلى
برج خليفة بدبي وأبراج تشق عباب المسافة بين الأرض والسماء بنصف ميل ... فهل
يقودنا النانو تكنولوجي إلى أن يعيش أحفادنا في مباني يصعدون عبرها للقمر.. وحين
يشاركون في اجتماع عمل في برج شاهق، وطوال الجلسة يتغير لون الحائط المواجه لهم من
الأخضر للأحمر، ويلهث مكيف الهواء كل لحظة ليسابق تغيرات الجو داخل الغرفة، وإذا
نظروا عبر النافذة تواجههم كباري مذهلة تقطع فوقها السيارات مسافة ميلين في لمح
البصر ... ولن يشعر أحدهم للحظة ما بغرابة أنهم في الطابق المائتين.
ذلك ليس مشهدًا في فيلم خيال علمي لكنه صورة لمباني
المستقبل؛ حيث يعكف العلماء والمهندسون حاليًا على استخدام «تكنولوجيا النانو»
لبناء وتصميم مشاريع هندسية عملاقة وذكية.
ويرتكز الجانب الرئيسي من تطور تكنولوجيا المباني
العملاقة على استخدام مواد بناء وطوب متناهية الصغر يطلق عليها اسم «نانو»، مشتقة
من أصل لاتيني تشير إلى مسافة Billionth - وهي تساوي جزء من المليون من المتر أو ما يوازي واحدًا على 80 ألفا من محيط شعرة من
الإنسان.
والنانو تكنولوجي Nano Technology هي أي نوع من التكنولوجيا تم التوصل إليها
بالتعامل مع جزيئات المادة وفقًا لمقاييس متناهية في الصغر، مثل الإنجازات في مجال
الطب، حيث تمكن الجراحون من السفر في الدورة الدموية للإنسان لمد الجسم بالعقاقير
داخل العضو المعطوب مباشرة.
ويهدف العلماء إلى إخضاع ثلاث مواد تستخدم في
البناء إلى قوانين النانو تكنولوجي وهي: الخرسانة، والصلب، والرمل.
مواد غريبة Strange materials
تظهر أمام العلماء قوانين فيزيائية مختلفة عند
التحكم في مواد البناء بمقاييس النانو؛ إذ تكون جزيئات الذهب متناهية الصغر، التى
تمت معالجتها بتكنولوجيا النانو، حمراء اللون وعالية النشاط في التفاعلات
الكيميائية، وتختلف بذلك تمامًا عن جزيئات الذهب الطبيعية.
ويقول العالم شايلي ماهندرا Shaily
Mahendra، أستاذ مساعد في قسم الهندسة المدنية والبيئية
بجامعة كاليفورنيا الأمريكية: "نحصل على زيادة هائلة في مساحة الأسطح عند
مستوى جزيئات النانو.. وهنا يكمن سحر النانو تكنولوجي".
يبدأ الإبداع بخيال الفنان وتنجزه جرأة المعماري
ويضع العلماء أهمية قصوى في المجال الهندسي على
أنابيب النانو الكربونية Carbon Nanotubes،
وتعتبرمن المواد الواعدة التي سوف تحدث ثورة في تصميم وبناء المشاريع العملاقة في
المستقبل.
وهي عبارة عن شرائح أو طبقات مسطحة مكونة من ذرات
كربون مصفوفة ومترابطة في أشكال هندسية سداسية، ويتم طيها في شكل أنابيب مجوفة،
ويكون قطر كل أنبوب من 1 إلى 100 نانومتر أو جزء من بليون من المتر.. ويتوصل إلى
بنائها الجزيئي الفريد ثلاثي الأبعاد بتسخين ذرات الكربون بالكهرباء أو بالليزر
لربط كل ذرة كربون بثلاث ذرات أخرى بروابط قوية، مثل التي يتشكل منها الماس الذي
يعد من أصلب المواد الكربونية.
كيف تدعم الأنابيب النانو كربونية المشاريع
الهندسية العملاقة؟
يؤكد العلماء أنها من أقوى مواد البناء التي تم
اكتشافها؛ فهي أقوى مائة مرة من الصلب. وعندما تم خلط هذه الألياف بالخرسانة، زادت
قوة وليونة الخرسانة المسلحة إلى نحو 300 مرة من الخرسانة التقليدية. وتتميز أيضًا
بخاصية امتصاص الثقل والجهد من المواد المحيطة بها. وحين تم اختبارها بوضع أحمال
ثقيلة على الخرسانة المسلحة المدعمة بأنابيب النانو كربون، انتقل الثقل إلى أنابيب
النانو؛ أي يمكن أن نستبدل بها قضبان الصلب فى الخرسانة المسلحة فنحصل على مادة
بناء خفيفة وفائقة القوة.
ويشرح العالم جون فرنانديز John Fernandez، الباحث في برنامج
تكنولوجيا البناء بمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا، الفكرة بأن اختبار صلابة الأنابيب
النانو كربونية من الصعوبة بمكان، رغم أن الباحثين وجدوا أنها ذات صلابة أكبر بما
يتراوح 120 إلى 140 مرة من الصلب، وتقل كثافة عنه بما يعادل السدس.
بيد أن تلك التكنولوجيا مكلفة جدًا في الوقت
الراهن. ويعكف العلماء على استخدامها كدعائم ليفية لتحسين فاعلية مواد البناء
المعروفة، مما يمنح المعماريين فرصة لإنجاز مشاريع عملاقة في ارتفاعها.
المادة الثانية التي يسعى العلماء إلى تطويرها
بتكنولوجيا النانو، هي فولاذ فائق الصلابة Super- strong Steel باستخدام الأنابيب النانو كربونية. ويفسر العالم
شايلي ماهندرا أن الصلب يحتوي على نسبة من الكربون، وإذا تمكن الكيميائيون من
استبدال بنائه الجزيئي غير المنتظم amorphous structure بالأنابيب النانو كربونية ذات
البناء الهندسي سداسي الشكل، فإن الصلب يكتسب قوة ميكانيكية أكبر.
ونأتي إلى المادة الثالثة التي تمنحنا إياها
تكنولوجيا النانو في الهندسة وهي الرمل؛ إذ يجري فريق من العلماء أبحاثًا لاستبدال
الرمل المستخدم في خلطة الخرسانة بثاني أكسيد السيليكون Silicon Dioxide المُعالج وفقًا لمقاييس النانو، مع إضافة أكسيد
الألمونيوم Aluminium
Oxide الذي يستخدم عادة في صنع المواد الواقية من الشمس.
ويتوقع العلماء تطبيق تلك التكنولوجيا في المستقبل
القريب، مؤكدين أن أبعاد وأحجام المشاريع الهندسية العملاقة، التي يجرى تنفيذها
حاليًا ستتضاءل أمام كباري وأبراج النانو تكنولوجي.
وبالمقارنة بالأرقام، يبلغ ارتفاع أعلى برج في
العالم، برج خليفة بدبي، 828 مترًا؛ ومن المتوقع أن يبلغ ارتفاع البرج الذي تخطط
المملكة العربية السعودية لإقامته في ميناء جدة على البحر الأحمر ميلاً أي 1600
متر ... بينما يأمل العلماء أن يصل ارتفاع مباني المستقبل إلى 2400 متر.
وأيضًا، يصل طول كوبري «أكاشي-كايكو» المعلق في
اليابان إلى 1991 مترًا، ببرجيه البالغ ارتفاع كل منهما 282 مترًا فوق النهر ليحمل
نحو 305 آلاف كيلو مترات من كوابل الصلب المعلقة ... ويقاوم هذا الكوبري رياحًا
بسرعة 290 كيلو مترًا في الساعة، وزلازل لا تتجاوز شدتها 8,5 درجات بمقياس ريختر.
حلول ذكية لارتفاعات شاهقة
ويواجه العلماء مشاكل تقنية خطيرة، أهمها أن أبراج
المستقبل يجب أن يعيش فيها الآلاف في أمان وأن تكون ثابتة كقمة «إيفرست» التي يبلغ
ارتفاعها سبعة آلاف متر.
ويفسر ديفيد سكوت David
Scott، خبير في إحدى شركات الهندسة العالمية، بأنه
كلما ارتفعت المباني تصاحبها ظاهرة طبيعية هي "تأثير الدوامات" Vortex Shedding التي تحدث عندما تتساوى وتحاذي دوامة سريعة من
الهواء حول البرج مع ترددات رنينية الصدى Resonant Frequency المنبعثة من الجسم ويتولد عنها
قوى هائلة تهز أساس المبنى.
وتطرح الهندسة الميكانيكية حلاً نظريًّا لتجنب
الظاهرة، وهو القطع على تيار الهواء، وتم تفاديه في بناء برج خليفة بدبي عن طريق
تغيير شكل البرج كلما ارتفع، مما نجم عنه تقليل اصطدام تيارات الرياح بالمبنى، رغم
تقليل مساحات الأدوار العليا.
ومن الحلول المطروحة الأخرى، وضع أجنحة صغيرة
عمودية
Vertical Ailerons على
جوانب المبنى تشبه الرفرف الذي تزود به أجنحة الطائرات الأفقية.
وتوقع العلماء أن تتيح لنا تطبيقات النانو تكنولوجي
إنشاء كباري بطول 6300 متر، بما يتجاوز حلم البشرية الحالي بإنشاء كوبري «مسينا»
ليصل جزيرة صقلية بإيطاليا بمسافة 3300 متر.. وقتها لن يصبح بناء كوبري عملاق يصل
بين سيبيريا وآلاسكا عبر ممر بيرنج من المستحيلات.
ولكن، كيف ستصبح بيئة المباني في المستقبل ذكية؟
ورغم الجدال الدائر حول مخاطر تكنولوجيا النانو،
فإن حقيقة أن المشاريع الهندسية المستقبلية ستصبح أكثر ذكاء تدفع المهندسين إلى
طرق آفاق جديدة بثقة وثبات.
ويؤكد العالم بيل سبنسر أن ناطحات السحاب قد تلامس
حدود السماء بفضل أجهزة المراقبة وأنها أصبحت "ذكية".
إقرأ أيضًا
رائع
ردحذفالمهارة والدقة الكبيرة فى تصميم اشكال مميزة من مصاعد كهربائية نحن نستخدم افضل انواع الخامات فى تصنيع المصاعد
ردحذفhttp://elevatorss.com