الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

• الإعلان والمرأة


         
          تحيط بنا الإعلانات اليوم بشكل غير مسبوق، فهي في الصحيفة التي نقرأها، والمجلة التي نتصفحها، وعبر القنوات التي نشاهدها، وتتكدس بها الشوارع التي نسلكها، حتى المواد الترفيهية من أغانٍ وأفلام أصبحت تسرِّب داخلها رسائل إعلانية، مما جعل التفرقة بين ما هو إعلاني وغيره، داخل الوسائط الإعلامية، أمرًا صعبًا.

          في الولايات المتحدة، حيث يولع الإحصائيون بتكديس الأرقام الدالة، يقال إن متوسط ما يشاهده الشخص، الذي يعيش نمط الحياة الأمريكية، يصل إلى 1500 إعلان يوميًا، أي أن هناك إعلانًا في كل دقيقة تستيقظ فيها حواس المواطن هناك. ويقول عالم الاجتماع بيرنارد ماك جرين: إن «من أعظم إنجازات الإعلانات أن تجعلنا نقول إنها لا تؤثر فينا». وهو ما يتفق مع قول مؤسِّسة منظمة التعليم الإعلامي وعالمة الاجتماع سوت جالي إن «أقوى الدعايات تأثيرًا هي التي تقدم بوصفها ليست دعاية».
          الواقع أيضا يمكن أن ينطبق على مجتمعاتنا العربية، بعد أن تماهى الإعلان والإعلام إلى حد كبير. باتت الأيقونات الإعلامية، من رجالات المجتمع ورموز السياسة ونجوم الرياضة وأقطاب الفن وكتاب الأدب، تمارس الإعلان في حياتها، فلا يمر إعلان دون أن نجده يتماس مع الحياة، بل ويقدم كحقيقة وواقع، ويستمر التماهي حين يتحول الإعلان من مرآة للمجتمع إلى أداة إقناع لها تأثيرها التراكمي.
الإعلان يساوي الصراع
          وسط ذلك كله يبدو استخدام صورة المرأة في الإعلان سلبيًا، فالإعلان لا يقدم علاجًا نفسيًا، وإنما يؤدي إلى نشوء صراع داخلي، بين الصورة التي تقدم، وتلك الأخرى الحقيقية في المجتمع. إن شعور النساء، والفتيات إلى حد ما، بأنهن غير جذابات، وغير مقبولات اجتماعيًا، يأتي بشكل رئيسي من التأثير السلبي للإعلانات التي تقدم صورة نمطية للمرأة النموذج، ذات المواصفات الجسدية، والاختيارات المجتمعية، التي تكرس الفروق الطبقية، والتفرقة العنصرية، وعدم المساواة الجنسية. غالبا ما تنتخب الإعلانات «الطويلات جدًا، النحيفات»، بل تخضع حتى الجميلات منهن، طبقا للمعايير التي تقدمها مجلات الموضة، إلى فرشاة البرامج الفنية لتحسين الصورة، مما يقدم ما نراه من وجوه وأجساد ترتبط بمستحضرات التجميل وأدواته، ولكنها وجوه بلاستيكية غير واقعية.
          ملايين الفتيات، ممن يفتقدن لهذا النموذج غير الموجود، سيشعرن بالفشل، والعار، والأسف، والذنب، وعدم الرضا، هكذا أثبتت دراسة قبل نحو عشرين عامًا أجراها وايزمان، وجاري، ومويزمان، وآرنز، وأعادت تأكيدها دراسات عدة في الوقت الراهن.
          تقول دراسة أجراها بيناس إن المرأة التي ترى صورة الجمال في الوسائط الإعلانية تكتشف أن لديها معاناة من رؤيتها السلبية لجسدها، أما تقارير جامعة هارفارد التي أجراها مركز التغذية فتؤكد أن 80 في المئة من النساء يستيقظن ليكتشفن عدم الرضا عن مظهرهن.
نجمات بلاستيكيات
          المتابعة للمسلسلات العربية، وخاصة المصرية، التي عرضت هذا العام، تكشف كيف تدخلت الصورة الإعلانية للمرأة التي لا تعاني من التجاعيد في تغيير وجوه نجمات التلفزيون، حتى أصبح من الصعب أن يقنعن بتمثيلهن، وهن يظهرن بوجوه بلاستيكية، خلت من التجاعيد، ولكنها خلت أيضا من المشاعر والحياة.
          إذا كان الخضوع للمشاهد غير المرغوبة، من عنف، وتحرش، يسبب العنف، فإن خضوع المشاهد للإعلان غير المراقب يجعل منه فريسة لكل تلك الرغبات والشهوات السلبية. وإذا كان هناك ميثاق شرف إعلامي، تقترب منه المؤسسة الإعلامية أو تبتعد عنه، فإن الأمر أصبح جديرًا بوجود ميثاق شرف إعلاني، يخضع لرقابة تربوية ومجتمعية، ينأى به عن تكريس العنصرية، وإشاعة السوقية، والترويج للعناصر التي تؤخر قيم المساواة والعدالة. إن حلم الخلود، بالظهور على الشاشة، والبقاء في الحياة، والاستمرار في دائرة الأضواء، وهو ما يقدمه الإعلان في رسائله المتكررة، يدفع المستهلك للتماهي مع النموذج الإعلاني، فيكون التقليد والشراهة في استخدام أدوات التجميل ومستحضراته، والخضوع لجراحاته أيضًا. هذا الطوفان الإعلاني ناتج عن تكريس المؤسسات الكبرى، مثل شركات المشروبات الغازية والملابس الرياضية، ثلث ميزانية التشغيل للإنفاق على الإعلانات المروجة للمنتجات التي تقدمها هذه المؤسسات. في العام 2000 أنفقت شركات الأدوية نحو ملياري دولار أمريكي على سوق الإعلانات. هذه المليارات، التي تضاعفت على مدار السنوات، كان يمكن أن تنفق في أبواب حقيقية تفيد المجتمع، لا أن تجعله يتصارع مع نفسه، مع تغذية الإعلانات للصور السلبية، من حب التملك، وشهوة التفوق، وتكريس الأنانية، والرغبة في تجاوز المجتمع. واليوم يعاني المواطنون والمواطنات العرب من وجود قوتين متناقضتين تطحنان ما يقف أمامهما، إنهما مطرقة الإعلانات في مقابل سندان المجتمع. ففي مقابل ما تقدمه الإعلانات من صور أسطورية للحياة، ينأى المجتمع بمشكلات تجعل الأغلبية تعاني في الحصول على المقومات الأساسية، في الصحة والتعليم والسكن والتغذية.
          هل يمكن أن نتخيل مجتمعًا بلا لافتات بحجم السماء تواجهك وأنت في الشارع؟ هل يمكن أن يوجد بيت ليست به مجلات وصحف تملأ الإعلانات صفحاتها؟ هل يستطيع أحد أن يحلم بمذياع لا يبث سوى الموسيقى، وقناة تلفزيونية من دون شرائط إشهار تجارية، ومواقع إلكترونية من دون إشارات تجارية وامضة؟ يبدو أنه أمر مستحيل، ولكن الممكن هو أن توجد للإعلان - الذي أتمناه بعيدا عن الزيف - مساحة، وأن توجد هناك مساحة بالمثل، يمارس فيها المجتمع بأطيافه حضورًا فنيًا حقيقيًا، يقدم فيها رسائل هادفة وخادمة وراقية على حد سواء.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق