لما كانت الحاجة ماسة إلى إيجاد نوع معين من
المواد لممارسة الكتابة عليه، فقد اهتدى الصناع المسلمون في عهد زياد
بن صالح والي سمرقند، إلى صناعة الورق، من أجل استخدامه في حياتنا اليومية، ثم انتقلت
صناعته إلى بغداد، وبلغت أفضل مرحلة لها في عهد الخليفة هارون الرشيد. ومن ثم
انتشرت صناعته بسرعة فائقة في جميع أنحاء العالم الاسلامي. وفي أيامنا هذه
أصبح الورق عنصراً أساسياً في حياتنا. وأصبح تطوير الآلات من أجل إنتاجها السريع
مسئولاً عن زيادة التعليم وارتفاع المستويات التعليمية لدى الناس عبر أنحاء
العالم.
الكتابة قبل ظهور الورق
وقد كانت الكتابة قبل ظهور الورق تتم على
الكرانيف (وهي أصول السعف الغلاظ العراض اللاصقة بجذوع النخيل). وورد في
كتب السيرة النبوية أن الوحي كان يكتب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم على
العسب (وهي أوراق السعف، وجريد النخل)، وكانوا يكتبون على الأقتاب وهي أخشاب على قدر
سنام البعير. كذلك كتبوا على الجلود بأنواعها، كالقضيم (وهو نوع من الجلد الأبيض)،
والأديم (وهو الجلد الأحمر المدبوغ)، وكتبوا على الحرير والقماش، وأشهرهما نسيج مصري
اسمه القباطي، فكانوا يطلونه بشيء من الصمغ، ثم يصقلونه، وبعدها يكتب عليه. وقد
كُتبت عليه أشعار المعلقات السبع قبل الإسلام، وعلقت على أستار الكعبة، كذلك كتبوا
على اللخاف (وهي حجارة بيض رقاق)، وكتبوا على أوراق البردي.
الصين وسر الصنعة
وفي عام 105م، تمكن الصيني “تساو لون” من إنتاج
الورق من ألياف النباتات ولب الأشجار، ومنذ مطلع القرن الثاني
الميلادي أصبحت صناعته سراً مقدساً لا يمكن البوح به، وأصبح إنتاجه وتصديره حكراً
على الدولة الصينية التي حافظت على أسراره تلك عدة عقود متتالية.
وعلى الرغم من أن تجار الدولة الإسلامية كانوا
همزة الوصل التجارية بين الصين وبقية دول العالم الأوربي براً
وبحراً، فقد نقلوا وتاجروا في عدد من المنتجات الصينية كان من ضمنها الورق نفسه، إلا
أنهم ظلوا على جهل تام بكيفية صنعه حتى عام 751 م عندما انتصر زياد بن صالح والي
سمرقند العربي على إخشيد فرغانة الذي كان يناصره ملك الصين. وتم أسر طائفة من
المحاربين الصينيين، كان من ضمنهم من يجيد صناعة الورق، وبذلك تسرب سرٌّ عزيزٌ وغالٍ من
أسرار الدولة الصينية.
من الصين إلى العالم الإسلامي
وسرعان ما أمر والي سمرقند بإقامة مصنع للورق،
ومع مضي الزمن تقدمت صناعته في العالم الإسلامي، حيث استعمل في
صناعته الكتان والقطن بدلاً من ألياف النباتات، مما أنتج ورقاً أبيض صقيلاً وجميلاً
وجد سوقاً رائجة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، لا سيما أن صناعته تزامنت مع
الطفرة العلمية التي شاعت في سماء العالم الإسلامي، والتي أضاءت ما حولها من
العوالم الأخرى، وقد طغى ورق سمرقند “الكاغد”، الذي كان ينقل
إلى العاصمة بغداد، وإلى مختلف المدن الإسلامية. ومن أشهر طرق صناعة “الكاغد” في العصور الإسلامية ما ورد
في كتاب “عمدة الكتاب وعدة ذوي الألباب” وفيه يذكر مؤلفه الأمير المعز بن
باديس طريقة صناعة “الكاغد” من مادة القنب الأبيض وطريقته:
“أن
ينقع القنب ويسرح حتى يلين ثم ينقع بماء الجير ويفرك باليد ويجفف، وتكرر هذه العملية ثلاثة أيام ويبدل الماء في
كل مرة حتى يصبح أبيض، ثم يقطع بالمقراض وينقع بالماء حتى يزول الجير منه ثم
يدق في هاون وهو ندي حتى لا تبقى فيه عقد ثم يحلل في الماء ويصبح مثل الحرير، ويصب
في قوالب حسب الحجم المراد وتكون قطع الورق مفتوحة الخيطان، فيرجع إلى القنب ويضرب
شديدا ويغلى في قالب كبير بالماء ويحرك على وجهيه حتى يكون ثخينا، ثم يصب في
قالب ويقلب على لوح ويلصق على الحائط حتى يجف ويسقط ويؤخذ له دقيق ناعم ونشاء في
الماء البارد، ويغلى حتى يفور ويصب على الدقيق، ويحرك حتى يروق، فيطلى به الورق، ثم
تلف الورقة على قصبة حتى تجف من الوجهين ثم يرش بالماء ويجفف ويصقل”.
بغداد وصناعة الورق
وفي عام 794م، تأسست في بغداد أول صناعة للورق
بواسطة الوزير البرمكي يحيى بن الفضل في عهد الخليفة هارون الرشيد،
ومعه بدأت المرحلة الذهبية لإنتاج الورق. ومع الورق بدأ الكتاب الإسلامي بازدياد.
وأخذ التنافس عليه يشمل الخلفاء والوزراء والأغنياء والعلماء والنساخ والطلاب،
كما أصبح الخطاطون موضع التقدير.
ومن بغداد التي كان فيها أكثر من 100 دكان لبيع
الورق، كانت الكتب سرعان ما تجد طريقها إلى أبعد المدن في العالم
الإسلامي. وبعد بغداد انتشرت صناعة الورق بسرعة فائقة في جميع أنحاء العالم
الإسلامي، فدخلت دمشق وطبرية بفلسطين وطرابلس الشام ومصر، ورغم أن سمرقند وبغداد
ظلتا أكبر مركز لصناعة الورق، إلا أن الورق السوري المصنوع في حماة كان من أجود
الأنواع، إذ كان يدخر لكتابة القرآن الكريم، وللخط والزخرفة والتلوين والتذهيب،
وكان يستعمل أيضاً في ديوان الخلافة (ديوان الإنشاء).
الورق العربي والأندلسي
وكان الورق العربي على أنواع، منها: السليماني
نسبة إلى سليمان بن راشد عامل الخراج على خراسان في عهد هارون
الرشيد، والطلحي نسبة إلى طلحة بن طاهر ثاني أمراء بني طاهر، والنواحي نسبة إلى نوح
حاكم خراسان، والجعفري نسبة إلى جعفر البرمكي. وكان مركز صناعة الورق الأولى في مدن
بلنسية وشاطبة وطليطلة بالأندلس، ثم تسربت صناعته أثناء الحروب الصليبية عن طريق
أسيرين فرنسيين تعلما صناعة الورق بدمشق، فلما عادا إلى بلادهما، نشرا صناعته في
فرنسا، ومنها انتقل إلى جميع أوربا، فلدمشق على المدنية بأسرها الفضل الأول في
تعليم هذه الصناعة للغربيين.
ويشهد لذلك أن أقدم المصانع التي أنشئت
لصناعته، في كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ترجع إلى أواخر القرن
الثالث عشر الميلادي. أما بالنسبة إلى أوربا الشرقية فكانت تكتفي بشرائه، على ما يشهد
لذلك الوراق الدمشقي “شارتا دا ماسينا”.
أقدم مخطوط عربي على الورق
ويذكر أن أقدم مخطوط عربي كتب على ورق وصل
إلينا هو كتاب “غريب الحديث” المنسوخ عام 866 م، بينما نجد أولى
الوثائق الأوربية المكتوبة على ورق كانت عبارة عن عقد للملك روجرز الصقلي عام 1102 م،
وآخر كتبته زوجته باليونانية والعربية. أخيراً أسهم ظهور الورق في ازدهار
حركة التأليف والنشر والترجمة، ومثلت كلّ أنواع النشاط العقلي والفكري في سائر
العلوم الدينية والتاريخية واللغوية والأدبية العربية والإسلامية، وفي العلوم
المنقولة أو المترجمة عن الأمم الأخرى كاليونان والرومان. وأضحت صورة مُشرقة بهيّة من
صور الحضارة الإسلامية. وظلت صناعة الورق ملازمة للإنسان تتجدد عبر العصور، حتى
يومنا هذا.
إقرأ أيضًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق