من
تحت مسطرة الفتاوى التي تصدى لإنتاجها وهو لم يبلغ العشرين من عمره بعد، انسابت قوافي محمد بن
إدريس الشافعي بموسيقاها الخجول لتعلن شاعريته الصافية، في محاولة غير مقصودة لتوثيق
صورة غير معتادة للفقيه المسلم الجالس في حلقة الدرس ليبين للجالسين بين يديه
حدود الحلال والحرام. لكن الحلال بيّن والحرام بيّـنٌ وبينهما أمور مشتبهات. وعلى
الرغم من أن الشعر ليس من بين الأمور المشتبهات في الإسلام، لكنه ظل دائمًا في
دائرة أكثر اتساعًا من الحلال البيّن. وعلى محيط تلك الدائرة برز الشافعي إمامًا
وشاعرًا.
إنـه
محمد بــن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي القرشي.
أحد
الأئمة الأربعة عند أهل السنة وإليه نسبة الشافعية كافة. ولد في غزة بفلسطين العام 150 هـ
(767م) فقيرا ويتيم الأب، ولم تشأ والدته أن تضيف لطفلها الصغير بالإضافة الى غربة
اليتم وغربة الفقر غربة المكان، فغادرت به إلى أرض أهله وأجداده في مكة. وهناك بدأ
مسيرة التعلم بحفظ القرآن وهو حدَث، وعلى الرغم من أنه تعلم أسرار اللغة العربية
وآدابها خلال حفظه للقرآن، لكنه شعر بحاجته إلى أخذ اللغة من منابعها الصافية بعيدًا
عما اختلطت به من أخلاط ممن تعج بهم المدن عادة، فرحل إلى البادية حيث أقام عدة سنوات
عند بني هذيل طلبًا لفصاحة اشتهروا بها، فلم يلبث أن اشتهر بها بدوره حتى أصبح
ممن تؤخذ عنه العربية. لكن عربية الشافعي لم تكن وسيلته الجميلة نحو التفقه في
الشريعة وحسب بل غايته المتوخاة شعرًا أيضًا. وبين الشعر والشريعة كان الشافعي يكوّن
نفسه الطموح، ويحميها من غوائل الغرور بالكثير من تواضع العالِم، وثقة المبدع. فكانت
فتاواه المنحازة للمنطق والبعيدة عن التحيز الفرداني، دليلاً على تواضعه أمام
الحقيقة المطلقة مهما كان مصدرها، فكان يقول لتلاميذ حلقته: "كل
ما قلت لكم فلم تشهد عليه عقولكم وتقبله وتره حقًا فلا تقبلوه، فإن العقل مضطر إلى قبول الحق". وكانت
قوافيه المستلة استلالاً رفيقًا من بين معتقداته الدينية وأفكاره الأخلاقية دليلاً
على علمه بالشعر وبأسراره، وبما يمكن أن يعتور قصيده من هنات وهو يتكئ في مجمله على
تلك الأفكار والمعتقدات وما يمكن أن يرشح منها، ولكن تلك المعرفة بما يمكن أن
يكون عيبًا في قصيده لم تضعضع ثقته بموهبته الشعرية التي دافع عنها بما يشير إلى
معرفته بما يعتورها من وهن لا يعود إلى طبيعة موهبته بقدر ما يعود إلى «ظروف» تبلور
تلك الموهبة لديه في إطار ديني فيقول:
وَلَوْلا
الشِّعْرُ بِالعُلَمَاءِ يُزُرِي
لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ
لَكُنْتُ الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ
وعلى
الرغم من أن شعر الشافعي تغلب عليه التقريرية التي نزعت به إلى الأفكار المجردة التي يقدمها
في صيغ تقليدية من الحكم والأمثال، فإن فنيتها كانت تلوح من بين القوافي ذات
النفس التأملي والأبعاد الإنسانية العامة في الغالب. وحتى في تلك الأبيات الموغلة في
كلاسيكيتها كانت نزعة الشافعي الإنسانية المتفردة في ظرفها الزماني تضفي عليها
ظلالاً إبداعية مفتوحة على مدى الشعر كله.
وبالإضافة
الى ثقافته اللغوية الواسعة حاز الشافعي ثقافة إنسانية أكثر سعة، نتيجة لأسفاره المتعددة
وأشهرها الى المدينة حيث استكمل معارفه الشرعية هناك على يد الإمام مالك بن أنس
قطب مدرسة الحديث الأول، وإلى بغداد حيث أخذ من بعض أهل الرأي من أقطاب المذهب
الحنفي ما أخذ، وإلى مصر حيث بقي يفتي ويعلم وفقا لمدرسته التي أسسها وسطًا بين
المذهبين، فكانت رمزًا للتقارب بين المذاهب كلها، وتعبيرًا عن سماحته الشخصية، التي عبر
عنها في شذرات شعرية راقية وفقًا لمقولته الخالدة: «والله ما ناظرت أحدًا إلا على
النصيحة»، إلى أن توفاه الله العام 204هـ (819م) تاركًا وراءه تراثًا فقهيًا تمثل في كتب
أهمها «الحجة»، «الأم»، و«الرسالة» وغيرها، أما أشعاره فقد تفرقت في كتب التراث
والتاريخ الأدبي إلى أن تصدى لجمعها زهدي يكن ونشرها في بيروت، ثم جمعها «محمد عفيف
الزغبي»، مستدركا ما فات زهدي يكن.
قال
الإمام أحمد بن حنبل: «ما مسّ أحد محبرة ولا قلمًا إلا وللشافعي في عنقه مِنَّة.
www.facebook.com/awladuna
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق