الأحد، 21 أكتوبر 2012

• الشريف الرضي.. عفة لا تعفف!


    
          احتفظت كتب السير والتراجم الأدبية لهذا الشاعر بخبر لطيف عن علاقة إنسانية جمعته بأحد أصدقائه، ولعل لطافة الخبر تكمن في مفارقات شخصية رصدها من كتب عن هذه العلاقة بين الصديقين.

          أما الشاعر فهو الشريف الرضي، وأما صديقه فهو الشاعر أبو إسحاق الصابئ، وبين «الشريف»، و«الصابئ» فوق ما يتصوره الكثيرون من علاقة متناقضة بين هذين اللقبين اللذين يستمدان دلالتيهما من المعنى الديني لكل منهما تحديدًا. فالرضي كان نقيب الأشراف في زمنه، وأبو إسحاق كان صابئيًا. لكن تلك المفارقة الدينية بين الاثنين لم تكن الأكثر وضوحًا في تفاصيل العلاقة بينهما، فعندما بدأت صداقتهما الوثيقة كان الشريف في العقد الثاني من عمره، وكان الصابئ في العقد الثامن، أي أن تلك الصداقة التي استمسكت بعروة الشعر أبحرت في ستة عقود من الزمن متكئة على المشترك الانساني الرهيف بين الشاعرين بغض النظر عن المعطيات الأخرى التي كونت شخصية كل منهما في بيئته ومجتمعه تحت ظلال معتقداته الدينية.
          ولعل في طبيعة تلك العلاقة الخاصة بين الاثنين ما ينبئ عن بعض ملامح شخصية الشريف أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى العلوي الحسيني الموسوي الذي ولد في بغداد عام 359 هـ (969م) وتوفي فيها عام 406هـ (1015م) نقيبا لأشراف تلك العاصمة العباسية.
          نشأ الرضي في تلك المدينة المحتشدة بكل أسباب الشعر وما يئول إليه آنذاك، فاكتملت دائرة شخصيته بنبوغه في تحصيل العلم الديني والدنيوي، حيث درس العلوم العربية والبلاغة والأدب، والفقه وعلم الكلام، والتفسير والحديث، على يد مشاهير علماء بغداد في ذلك  الوقت كابن جِنِّي والشيخ المفيد وغيرهما. ولم يكتف الرضي باكتساب العلم بل أحب أن يشاركه الآخرون متعة ذلك الاكتساب فأنشأ مدرسة أسماها «دار العلوم»، وخصص لمعلميها وطلبتها من ماله الخاص ما يعينهم على الدرس لكل العلوم.
          بالرغم من اهتمام الرضي الشاب بكل ما درسه فإنه سرعان ما انحاز لموهبته الفطرية في قول الشعر، لكنه لم ينس شجرة نسبه التي تمتد جذورها إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاهل المنصب الديني الرفيع الذي كان مؤهلا له عائليًا، ووصله بعد ذلك فعلاً، فابتعد عما كان يخوض به الشعراء أو أغلبهم أنذاك من ملذات تتجاوز التعاليم الدينية والاجتماعية تحت شعار يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره. لكن الرضي لم يكن يحتاج إلى تلك الرخصة لإنتاج نصه الشعري المتميز، حيث كانت قصيدته مرآة لمكوناته الجينية والدينية والتعليمية والفطرية، فلم يمدح تكسبًا، ولم يهج إقذاعًا، ولم يتغزل متفحشًا، بل أنتج قصيدته المتفردة في خصائصها ذات السمت الخاص مستعينًا بالموهبة والإيمان بها وبذاته في رهافتها وإنسانيتها وأنفتها أيضًا، وكانت رقته في الغزل بشكل خاص مبعث إعجاب جميع نقاد وشعراء وقراء عصره ومن يليهم.
          وعندما قال الشريف الرضي ذات شطر «خلونا.. فكانت عفة لا تعفف»، لم يكن يشرح طبيعة العلاقة المفرطة في عذريتها بينه وبين الحبيبة وحسب، بل لعله كان يضيء على منهاجه العام في كتابة القصيدة، حيث الفرق بين العفة والتعفف هو ذاته الفرق بين الصنعة والتصنع، وفي كلا الأمرين كان الشريف الرضي ذلك الشاعر المنحاز دوما لفطرته وإنسانيته في علاقاته مع الآخرين مهما كانت طبيعة تلك العلاقات، وفي قول الشعر مهما كان الغرض الذي يؤطره ذلك الشعر غزلاً وفخرًا ومديحًا وزهدًا وهجاءً، ففي كل منحى من تلك المناحي الشعرية كان الشريف الرضي يبدو مخلصًا لذاته الإنسانية دون أن يؤثر ذلك في إخلاصه لذاته الشعرية، فلم يكن التزامه تلبية لظروفه الاجتماعية والأسرية بقدر ما كان مرآة لطبيعته الشخصية.
          وقد ترك الشريف الرضي وراءه الكثير من المؤلفات، فبالاضافة إلى ديوان شعر ضخم طبع طبعات عدة، أهدى المكتبة العربية كتاب  شرح نهج البلاغة في كلام الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وهو الكتاب الأهم في مكتبته الخاصة التي احتوت على مؤلفات أخرى منها كتاب تلخيص البيان في مجازات القرآن، وكتاب حقائق التأويل في متشابه التنزيل، وكتاب المجازات النبوية، وأخبار قضاة بغداد، وشعر ابن الحجاج، ومن تأليفه أيضًا: سيرة والده ثم ديوان رسائله.
          قال بعض واصفي  الشريف الرضي: «كان شاعرًا مفلقًا فصيح النظم، ضخم الألفاظ قادرًا على القريض متصرفًا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق له فيه غبار، وإن قصد المراثي جاء سابقًا، والشعراء منقطعة الأنفاس».

تابعونا على الفيس بوك


www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه





هناك تعليق واحد:

  1. الهم لك الحمد حمدا على نعمتك وحكمتك في خلقك واخلاقهم وسيماهم

    ردحذف