الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

• التأثير العربي في أوربا العصور الوسطى



         في مقدمة الترجمة العربية لكتاب «التأثير العربي في أوربا العصور الوسطى»، يُعدد المترجم الدكتور قاسم عبده قاسم ما يعتبره أهم جوانب العظمة في الحضارة الإسلامية، قبل أن يقدم تلخيصًا للبحوث السبعة التي يتألف منها الكتاب، موضحًا أن البحوث السبعة تعالج بعض هذه الجوانب التي أعطت الحضارة الإسلامية فرادتها. يحمل البحث الأول عنوان «دور التجارة في الاتصال الإسلامي المسيحي في العصور الوسطى»، وقدمه الدكتور داود أبو العافية، والبحث الثاني هو «التكنولوجيا العربية الراقية وتأثيرها على الهندسة الميكانيكية الأوربية»، وقدمه دونالد هيل، والثالث «تأثير المشغولات المعدنية في منطقة البحر المتوسط العربية وتأثيرها على مثيلاتها في أوربا العصور الوسطى»، وقدمه جيمس آلان، ثم «تساؤلات حول الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية لدانتي»، وقدمه فيليب كينيدي، و«الحدود المسيحية–الإسلامية في الأندلس:الفكرة والحقيقة»، وقدمه إدوارد مانزانو مورينو.
         وبعده «طريقة إسلامية في التنجيم بأسبانيا العصور الوسطى»، وقدمه تشارلز بورنيت، ثم «هل هناك تأثير أسباني-موريسكي على الأغنية الأوربية؟»، وقدمه دافيد ولستان.
         وسوف نعرض هنا للبحث الثاني الذي يعالج الابتكارات التكنولوجية العربية في العصور الوسطى، وهي التكنولوجيا التي وصفها دونالد هيل بأنها بسيطة أو ساذجة  ingenius، لكن المترجم جعلها، عندما نقل النص إلى العربية، التكنولوجيا الراقية. وعندما ناقشته تبين لي أنه غلب دوره كأستاذ لتاريخ العصور الوسطى ذي توجهات عروبية قوية على دوره كمترجم. لكنه بقي مقنعًا، فقد قال لي: هذه الابتكارت كانت ذروة التكنولوجيا في عصرها، وبالتالي فهي التكنولوجيا الراقية في العصور الوسطى، ولا يجوز أن نحكم على عصر انقضى بمقاييس عصرنا هذا، وإلا كان كل ما سبقنا ساذجًا. هذه تكنولوجيا عظيمة لأنها وضعت الأساس الذي تقوم عليه العظمة الراهنة. وقد اقتنعت برأيه، خاصة أن فيما قاله دونالد هيل، كما سنبين فيما يلي، ما يرجح هذا الرأي. والتكنولوجيات التي يعني مقال دونالد هيل بالحديث عنها، سواء اعتبرناها راقية كما يقول الدكتور قاسم أو بسيطة كما يشير النص الأصلي، هي تلك الأدوات والآلات التي صممت بهدف إضفاء البهجة والسرور على أعضاء البلاطات الملكية في الأقطار المسلمة في العصور الوسطى، أو لحفظ الوقت، أو تلك التي صممت لأغراض البحث العلمي وخاصة في مجال الفلك الوثيق الصلة بمواعيد الصيام والحج وبتوقيتات الصلاة وغير ذلك.
الموروث الهللينستي
         وكما هو معروف فقد استفاد العلماء والمصممون العرب من التراث العلمي الهللينستي (التراث اليوناني في الفترة من وفاة الإسكندر الأكبر وحتى صعود أوغسطس، وفقًا لـ (THE FREE DICTIONARY، وهذا ما يشير إليه الكتاب الذي يؤكد أن العرب لم يكونوا مجرد حلقة وصل بين العصور الكلاسيكية والنهضة الأوربية، بمعنى أنهم لم يكتفوا بنقل الموروث الحضاري اليوناني والحفاظ عليه من الضياع بل وأضافوا إليه، وبالتالي نقلوا المعارف والخبرات الإنسانية نقلة مهمة. وقد عالجت موسوعة تاريخ العلوم العربيةEncyclopedia of The History of Arab Sciences  (المجلد الثاني) العلاقة بين الابتكارات العربية وبين سابقتها الهللينستية في مجال الدراسات والتطبيقات الميكانيكية، وهو المجال الذي يتصل بالابتكارات التي ركز عليها مقال دونالد هيل، موضحة أن علم الاستاتيات أو (السكونيات  statics) قد يكون هو الفرع الذي وقع فيه أوثق الاتصال بين العلماء المسلمين القروسطين والرواد الإغريق.
         ففي فصل من الموسوعة بعنوان «الاستاتيات Statics» تقول مريم روجانسكايا  Mariam Rozhanskaya، التي كتبت هذا الفصل بالتعاون مع ي. س. ليفينونفا I.S.Livinova، إن «الاستاتيات نشأت كعلم منفصل – علم الأثقال - في العصور الكلاسيكية. وكانت المسألة الرئيسية في هذا العلم، بداية، هي حساب ما يُكتسب من القوة التي تتحصل باستخدام أدوات ميكانيكية بعينها». ويضيف هذا الفصل أن «الاتجاه إلى دراسة الهندسة والكينماتيكا (kinematics) وهي علم الحركة المجردة كما يقول قاموس المورد، أو هو ذلك الفرع من علوم الميكانيكا المعني بدراسة حركة جسم أو منظومة من أجسام بغير اعتبار لكتلة الجسم أو للقوى الفاعلة عليه كما يقول (The FREE DICTIONARY) بتعليقات على أعمال أرخميدس، وأرسطو، وهيرو السكندري، وبابوس السكندري، وفيتروفيوس، وبمعالجات تناولت هذه الأعمال. وقد كانت ترجمات أعمال أرسطو والتعليقات عليها ذات أهمية فائقة».
أبناء قاطع الطريق
         ويركز هيل على مبتكرات وتصاميم اثنين من العلماء المسلمين هما أبو القاسم أحمد ابن موسى بن شاكر (المتوفى في القرن التاسع الميلادي)، وهو واحد من ثلاثة أبناء لقاطع طريق جعلته المقادير منجمًا (قارئًا للطالع) وفلكيًّا متضلعًا في علوم الأجرام السماوية في بلاط المأمون. والثلاثة كانوا من نوابغ عصرهم ومن الشخصيات المهمة في بلاط المأمون وفي خضم الاضطرابات السياسية التي عصفت به. وينسب إليهم كُتّاب التراجم عشرين مؤلفًا مهمًا، ليس بين أيدينا منها اليوم سوى ثلاثة أحدها باق في ترجمته اللاتينية، إذ ضاع أصله العربي. وقد وصل النبوغ بأحمد بن موسى أن أصبح خبير الهندسة الأول في بيت الحكمة، مركز العلم في الدولة العباسية، ومركز التنوير في العالم كله آنذاك. وينسب هيل إلى أحمد بن موسى كتاب «الحيل»، وإن كان هناك من مؤرخي العلوم من يرجح أن يكون هذا الكتاب من تأليف الإخوة الثلاثة من بني موسى، معًا.
قديمان باقيان
         وقد اشتمل هذا الكتاب على وصف لمائة من المبتكرات المهمة. ويقول هيل «وحوالي ثمانين آلة مما ورد وصفه في الكتاب عبارة عن أدوات الحيل من أنواع مختلفة، والباقي يتضمن النافورات، والمصابيح، وقناع غازات، للاستخدام في الآبار الملوثة. وعلى الرغم من التفاهة الظاهرية لكثير من الآلات، فإن تمكن أحمد من الضغوط الهوائية والمائية الساكنة واستخدامه للتحكم الآلي والنظم التبادلية يضعه في مكانة متقدمة تمامًا عن أسلافه الهللينستيين. والواقع أن أعماله في هذا المجال، على الرغم من مداها المحدود، لم يتجاوزها أحد حتى العصور الحديثة».
         والعالم الثاني الذي يعرض له هيل، في هذا المقال، هو العالم والمهندس الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادي بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل الرزاز الملقب بالجزري، نسبة إلى المنطقة التي ولد فيها وهي الجزيرة بشرق سورية، وقد عمل رئيسًا للمهندسين في ديار بكر، شمال الجزيرة، وأشهر مؤلفاته هو «الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل». ويعتبر هيل أن هذا هو أهم كتاب عربي على الإطلاق، وأهم وثيقة هندسية في العالم قبل عصر النهضة الأوربية.
         ويورد هيل تقسيم محتويات الكتاب الستة، على النحو التالي: الساعات المائية وساعات الشموع، آلات فصد الدم وأواني توزيع الماء، نافورات تبادلية وآلات موسيقية ذاتية، آلات رفع المياه، متنوعات. ويهمنا بعد هذا كله أن نشير إلى أمرين، أولهما أن الحضارة العربية-الإسلامية في القرون الوسطى كانت حضارة قوم يحتفلون بالحياة ويسعون إلى تعظيم مباهج التجربة الإنسانية، ويعبر د. قاسم عن ذلك بقوله، في مقدمة الكتاب الذي نعرض له هنا: المدينة التي كان المسجد مركزها... كانت تكتظ بالمنشآت ذات الوظيفة الدينية/الاجتماعية... ولكن الطبيعة التفاؤلية للإسلام جعلت المدينة الإسلامية تحتوي أيضا على الأسواق، وأماكن النزهة والترويح، كما شهدت الأعياد والاحتفالات والمهرجانات».
         وتلقي محتويات كتاب الجزري، ومبتكرات أحمد بن موسى ضوءًا ساطعًا على ثنائية بالغة الأهمية تتمثل في الاهتمام بكل ما في حياة الناس من تمسك بالدين ومن رغبة في التمتع بالحياة، في آن معًا. ولعل أجهزة قياس الوقت، والأدوات الفلكية التي تتصل بالتوقيتات وحركة الفصول، هي الأقرب إلى الجمع بين الاهتمامات الدنيوية، والتوقيت هو محورها الرئيسي، والاهتمامات الدينية التي لا تقوم شعائرها من دون مراعاة حركة الزمن، على مستوى اليوم الواحد وعلى مستوى العام بمختلف شهوره. ولعلنا نتذكر أن أشهر الحكايا عن انبهار الغرب بالتقدم العربي في القرون الوسطى كانت تلك التي ترويها الكتب المدرسية عن الساعة التي أهداها هارون الرشيد للإمبراطور شارلماني سيد الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
         والأمر الثاني الذي نحب أن نشير إليه هو تعليق على ما قاله هيل من أن مبتكرات أحمد بن موسى وبديع الزمان الجزري لن يأتي، في المستقبل، من يتجاوزها. وهذا الجزم بأبدية التفوق الذي أحرزه هذان العالمان المسلمان، على غرابته، يدعو أي مسلم إلى الشعور بالزهو، وهذا ما يدفعنا للتساؤل حول جدوى الوقوف عند هذه الأسماء الكبرى في تاريخ الإنسانية، خاصة أن الاستمتاع بهذا الشعور بالفخر يصعب القول إنه كاف لتخفيف الشعور بالسخط على ما آلت إليه أحوال البلدان ذات الأغلبية المسلمة في العالم اليوم.
وحدة التاريخ الإنساني
         نعم نحن بحاجة إلى شهادة من علماء لهم قيمتهم مثل دونالد هيل بأن حضارتنا كان لها دور بهذا القدر من الأهمية. ولكن يجب أن تؤدي كتابات من هذا النوع، أيضًا، إلى تعميق الشعور بوحدة التاريخ الإنساني، ففي نهر هذا التاريخ تمتزج إنجازات وحماقات الحضارات المختلفة لتصنع قدرًا مشتركًا للإنسانية. ويتميز بحث دونالد هيل الذي عرضنا له، والبحوث الأخرى التي ضمها كتاب «التأثير العربي في أوربا العصور الوسطى»، بالتركيز على امتزاج الاهتمامات الدينية والدنيوية عند العرب والمسلمين إبان عصر الصعود، في حين ركزت الحضارة الأوربية، الوريث المباشر للعرب، على ما قد يبرر وصفها بالحضارة «الجوفاء» كما زعم البابا بنيديكت السادس عشر في كتاب ظهر عام 2006 وحمل اسمه عندما كان لا يزال كاردينالاً واسم شريكه في تأليف الكتاب وهو «الغرب، النسبية، المسيحية، الإسلام»، بقلم جوزيف راتسينغر (بابا الفاتيكان الحالي) ومارشيللو بيرا. في هذا الكتاب يقول المؤلفان: في لحظة نجاحها الأعظم تبدو أوربا جوفاء، كأنها أصيبت بشلل داخلي ناتج عن قصور في دورتها الدموية، تهدد حياتها وتخضعها لعمليات زرع أعضاء تهدد بمحو هويتها. لماذا حدث ذلك؟ قد نجد الإجابة عن هذا السؤال في ثنايا ما ألمح إليه المؤلفان من أن الحضارة الأوربية ربما لم تكن أكثر من «حضارة التكنولوجيا والتجارة التي زحفت، منتصرة، على كافة أرجاء الكوكب».
         قد يرى المؤلفان أن التركيز على القيم الروحية كان كفيلاً بأن يجنب حضارة الغرب، وأي حضارة أخرى، كارثة الوقوع فيما يشيران إليه من خواء روحي وقيمي.
أسامة الغزولي






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق