الخميس، 4 أكتوبر 2012

• نحن والهواتف النقالة: بين الأسر والإدمان



         يعد فيلم «الخادم» The Servant الذي عُرض سنة 1963 واحدًا من الأفلام التي يستحيل نسيانها، فهو تحليل مفصل ودقيق للعلاقة بين خادم ماكر (لعب دوره الممثل ديرك بوجارد (Dirk Bogarde) وسيده المتهتك لعب دوره الممثل جيمس فوكس (James Fox)، حيث يستغل الخادم ضعف سيده حتى يقلب الأمور رأسا على عقب، ثم تنتهي القصة بفوكس المتذلل يخدم بوجارد المتغطرس. كان الفيلم بمنزلة اتهام للبنيان الطبقي لبريطانيا إبان رئاسة وزراء هارولد ماكميلان Harold Macmillan، لكن من الصعب أن تشاهد هذا الفيلم اليوم دون التفكير في علاقة أخرى مشحونة؛ ألا وهي العلاقة بين المشتغلين بالأعمال وهواتفهم الذكية.
         تتيح الأجهزة الذكية أحيانًا تمكين أصحابها، حيث تأتي بعالم من المعلومات عند أطراف أصابعنا، كما أنها تمنح الناس الحرية للعمل من البيت بدلًا من انحشارهم داخل قطار مع أغراب تفوح منهم رائحة كريهة، وهذه نعمة كبيرة للآباء والأمهات الذين ينشدون ساعات عمل مرنة. كما يمكن للهواتف الذكية والكمبيوترات اللوحية أيضًا أن تعزز الكفاءة بسماحها للأشخاص بإنجاز الأشياء في لحظات الفراغ التي ستضيع لولا هذه الأجهزة، كما في حالة الانتظار في الصف للحصول على كوب من القهوة، بل يمكنها مساعدة المتكاسلين على الإيهام بأنهم يعملون على مدار الساعة، وذلك ببرمجة بريدهم الإلكتروني كي يتم إرساله في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل.

         لكن الخادم صار هو السيد بالنسبة لمعظم الناس. فمنذ فترة ليست بالطويلة، كان الأطباء وحدهم هم المتاحون للاستدعاء للخدمة طوال الوقت، أما الآن فالجميع متاح للاستدعاء، فالرؤساء في العمل لا يبالون بالتعدي على وقت فراغ موظفيهم. ونحن نرى العمل يغزو البيت أكثر مما تغزو الأشغال المنزلية المكتب. ونرى أشخاصا هم من العقلاء من زوايا أخرى يطالعون هواتفهم الذكية بشكل يغلب عليه الهوس، حتى أثناء تناولهم المشروبات الفاتحة للشهية قبل الغداء، ويرسلون رسائل إلكترونية كأول شيء في الصباح وكآخر شيء في الليل.
         يُعزى هذا جزئيًّا إلى كون الهواتف الذكية تسبب الإدمان. فعندما حاول خبير العلامات التجارية مارتن لندستروم Martin Lindstrom التعرف على الأصوات العشرة التي تؤثر على الناس أقوى من كل ما عداها، وجد أن صوت اهتزاز الهاتف حل في المركز الثالث بعد صوت مجموعة أجراس إنتل وصوت رضيع يقهقه. وتوفر هواتف بلاكبيري وآيفون منبهًا نفسيًّا لا يتوقف، تتخلله بعض المكافآت. فالاحتمال كبير أنك كلما طالعت المستطيل المتوهج رأيت رسالة من عميل أو رسالة تقدير من رئيسك في العمل أو على الأقل رسالة إلكترونية من رجل نيجيري يعرض عليك مليون دولار مقابل إطلاعه على بيانات حسابك المصرفي. والهواتف الذكية هي أفضل عذر اختُلق حتى الآن للتسويف. فكم شخصًا يمكنهم أن يقولوا –صادقين- إنهم لم يُشذبوا رسائلهم الإلكترونية لتأجيل القيام بالمهام الشاقة؟
         تضخّم أنظمة الاتصالات المتعددة Hyper connectivity بعضًا من الاتجاهات الأشد زعزعة للاستقرار في محل العمل الحديث، وهي تراجع اليقين (في ظل تخلي المؤسسات عن البيروقراطية لصالح الأدهوقراطية Adhocracy (، وصعود سلاسل الإمداد العالمية، وتقليعة المرونة التي شاعت بين الناس. فالهواتف الذكية تسهّل على المديرين تغيير آرائهم في اللحظة الأخيرة، وذلك بأن يرسل أحدهم إلى مرؤوسه رسالة إلكترونية الساعة الـ 11 مساء يخبره فيها بضرورة سفره جواً إلى بتسبرج غدا. كما تسهّل هذه الأجهزة على المديرين في إحدى مناطق الزمنية إفساد أمسيات المديرين في منطقة أخرى.
         معًا نستطيع أن نفوق هواتفنا ذكاءً فما الذي يمكن فعله لإلزام الهواتف الذكية حدودها؟ وكيف يمكننا أن نجني ثمار إمكانية الاتصال دون أن نصبح عبيدًا لها؟ أحد الحلول هو اتباع حمية رقمية. فكما أن وفرة الطعام عديم القيمة الغذائية تعني ضرورة أن يكون الناس أكثر انضباطًا في عادات الأكل التي يتبعونها، كذلك الوفرة في المعلومات عديمة القيمة تعني ضرورة أن يكونوا أكثر انضباطًا في عادات التصفح التي يتبعونها. وحظر التصفح قبل الإفطار يمكنه إضفاء نذر يسير من الحضارة. وحظر إرسال الرسائل النصية خلال العطلات الأسبوعية أو قُل أيام الخميس يمكنه بحقّ أن يعلّم الآيفون من هو السيد ومن العبد.
         المشكلة التي تواجه هذا النهج هي أنه لا يُثمر إلا إذا كنت تعيش في جزيرة منعزلة أو في قاع بحيرة. وتحاول ليزلي بيرلو Leslie Perlow، الأستاذة بكلية هارفارد للأعمال، في كتابها الذي سيصدر قريبا بعنوان «النوم مع هاتفك الذكي» إثبات أن السبيل الوحيد بالنسبة لمعظم الناس كي يكسروا عادةَ الاتصالِ على مدى 24 ساعة يوميًّا و7 أيام أسبوعيًّا هو أن يتصرفوا بشكل جماعي لا فردي. وهي تروي قصة واحدة من أكثر المؤسسات اجتهادًا في العالم وهي بوسطن كونسلتنج جروب Boston Consulting Group وكيف أنها تعلمت إدارة أنظمة الاتصالات المتعددة بطريقة أفضل، حيث وضعت الشركة قواعد تنظم الأوقات التي يُتوقع فيها من الأفراد أن يكونوا غير متصلين، وشجعتهم على العمل معًا من أجل تيسير الالتزام بهذه القواعد.
         وقد سخر كثيرون من الاستشاريين المعجبين برجولتهم من هذه الممارسة في البداية، أوليس أصحاب الأيدي المرتعشة وحدهم هم من يغلقون هواتفهم الذكية؟ لكن في النهاية أجبرت هذه الممارسة الناس على العمل بمزيد من الإنتاجية مع الحد من إنهاكهم في الوقت نفسه.
         ينبغي أخذ نصيحة الأستاذة بيرلو على محمل الجد، فمشكلة أنظمة الاتصالات المتعددة لن تزداد إلا تفاقمًا مع ازدياد ذكاء الهواتف الذكية وتولي المواطنين الرقميين الشباب زمام السلطة على القوة العاملة، فالناس يتخلون إلى الأبد عن حياتهم لصالح هواتفهم مثلما تخلى جيمس فوكس عن حياته إلى الأبد لصالح ديرك بوجارد. ويمكنك أن تقوم الآن بتنزيل مساعدين شخصيين (مثل تطبيق سيري Siri الخاص بشركة آبل) يقولون لك ما الذي يتضمنه جدولك، ومدربين شخصيين افتراضيين يحثونك على القيام بالمزيد من التمارين الرياضية. وتقول هيئة تنظيم الاتصالات البريطانية "أوفكوم" Ofcom إن نسبة مذهلة بلغت 60 في المائة من المراهقين الذين يستخدمون الهواتف الذكية يصفون أنفسهم بأنهم «شديدو الإدمان» لأجهزتهم، وإن 37 في المائة من البالغين يقولون مثل قولهم.
         كلما صارت الهواتف الذكية أسرع وكلما كانت التطبيقات المبتكرة لها أكثر إغراءً، ازداد الإدمان قوة. ويمكن للأزواج والزوجات المساعدة في هذا الشأن بإلقاء هذه الأجهزة من النافذة أو في دلو ماء. لكن في النهاية، الأمر بيد الشركات أن تفوق الهواتف الذكية ذكاءً بإصرارها على غلق الجميع هذه الهواتف من حين إلى آخر.

إقرأ أيضًا





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق