اذا كان أحمد شوقي قد أيقظ القصيدة
العربية من سباتها الطويل لتستقبل القرن العشرين بأناقة
ورونق يليقان بديوان العرب الأزلي، فإن نزار قباني حولها إلى رغيف خبز لا يستغنى
عنه في ذاكرة العرب اليومية، وهكذا استحق الشاعران مجدهما الخاص كي يكونا الإسمين الأهم شعريًا طوال القرن المنصرم. وإذا كان
قد أجمع على مكانة شوقي
المميزة معظم النقاد العرب، فإن معظمهم
اختلفوا حول نزار قباني، ولكل أسبابه.
لقد بدأ الشاعر الذي يحلو له ولمحبيه أن
يلقبوه بشاعر المرأة على
الرغم من اعتراض المعترضين، خطته
الشعرية بديوان شعر صغير وشى لنا فيه بما قالته له السمراء، ولم تنته
الخطة أبدًا، رغم ما أثاره ديوانه الأول من إشكاليات بذرت البذرة الأولى في أرض خصوصيته، حيث قضى نزار قباني أكثر من نصف قرن من
الزمن في مديح
النساء والأوطان والأشجار والسماوات
والأناقات المتفشية منذ الحدود الدنيا للكلمة المفردة حتى الحدود
القصوى للقصيدة الخاصة جدًا، والتي حملت هويتها الأكثر خصوصية باسم نزار قباني تحديدًا.
واعتاد الجميع على صخب التصفيق وحرارته
كلما ارتج الميكرفون بصوته في أماسيه الشعرية
المزدحمة دائما بكل الأطياف ليس على مدى تلك المساحة الجغرافية الممتدة من المحيط الى الخليج وحسب، وإنما أيضًا على مدى ما
يتجاوز هذه المساحة
التقليدية في كل جغرافيات العالم حيث
العربي الحديث الذي هاجر بعيدًا عن وطنه ولكنه لم يقوَ على هجر
ديوانه الاول وملاذه الروحي الأجمل: الشعر.
وإذا كان الشاعر قد تكون شعريًا بين
أطياف المختلفين حوله سلبًا
وإيجابًا، فلأنه صار بين الحالين عنوانًا
مثيرًا تزيده عناوين قصائده إثارة تخرجه أحيانا كثيرة من
دوائر النقد الجدي والأكاديمي، الذي لم يحظ إلا بالقليل منه، نحو دوائر الأخبار الصحفية والأحداث اليومية على غير عادة الشعر في
مكانته النخبوية في
التقليد العربي الموروث.
كانت قصيدته «خبز وحشيش وقمر» التي
كتبها عام 1954 أولى قصائده التي أثارت الغضب وجعلت
منه شاعرًا متداولاً على مستوى المتفقين والمختلفين ليس من أهل الثقافة وحسب وبل أيضا من أهل السياسة الذين ناقشوا تلك
القصيدة تحت قبة البرلمان
السورى آنذاك حيث طالب بعض النواب
بمحاكمة الشاعر وطرده من السلك الدبلوماسي الذي كان يعمل فيه. أما
قصيدته الثانية في سلم الإثارة فقد كانت «هوامش على دفتر النكسة» التي كتبها في
أعقاب الهزيمة العربية عام 1967 بلغة نقدية جارحة للذات العربية التى رآها مسئولة عن الهزيمة، ما أثار عليه نقمة الجميع تقريبًا.
وختم نزار قباني سلسلة
قصائده السياسية المثيرة للجدل بـ
«المهرولون» التي كتبها عام 1995 انتقادا للاتفاقيات العربية -
الاسرائيلية على طريق السلام والتي كانت توقع آنذاك بسرعة الهرولة.
منذ صدور أولى مجموعاته الشعرية وحتى
آخر آخر قصائده ومقالاته التي كان ينشرها في
الصحافة قبل وفاته بقليل مرورًا بعشرات الكتب الشعرية والنثرية التي صنعت منه شخصية مميزة جدًا في ديوان الشعر العربي في تاريخه
كله، وفرت به من أسر
التصنيفات النقدية التقليدية والقوالب
الشعرية الجاهزة نحو فضاء واسع مملوء بالشعر، رغم العناوين الكثيرة
التي حاولت حصره بين أقواس ضيقة كأن يكون شاعر المرأة أو شاعر الحواس أو شاعر الإثارة أو الشاعر الشتّام، ولكنه ظل دائما
الشاعر نزار قباني الذي
اكتفى بأن يكون واحدًا من أولئك الشعراء
الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، فقد حظي بمجد شعري وإنساني
وجماهيري ربما لم يحظ به شاعر عربي آخر على مدى التاريخ كله. وفي رفضه للشوفينية الذكورية انحاز للمرأة العربية انحيازًا شكلانيًا
في معظمه، لكن
شعريته الطاغية بسهولتها التي امتنعت على
غيره ومفردات الحياة اليومية التي احتشدت في شعره بأناقة لافتة
وبساطة اقتربت بها الى العامية أحيانًا، وفرت له جماهيرية كرسته نجمًا وشجعت
نجوم الطرب والغناء على التغني بقصائده في حالة لم تتكرر كثيرا مع شاعر معاصر.
ونزار قباني الذي ولد عام 1923 في العاصمة
السورية دمشق، ونشأ في أسرة
متوسطة الحال، تخرج في العام 1945 من
كلية الحقوق في الجامعة السورية قبل أن يعمل سفيرًا في عدة عواصم
عربية وأجنبية، إلى أن قدم استقالته في العام 1966 متفرغا للشعر وحده حيث أنشأ «منشورات نزار قباني» بعد أن صارت قصيدته مشروعًا
تجاريًا مربحًا، كما
لم يحدث قبله ولا بعده حتى الآن. وكانت
حصيلته - عندما وافته المنية عام 1998 في لندن بعد أن توقف
قلبه عن الخفقان، ودفن في مدينته الأحب دمشق - أكثر من أربعين مجموعة شعرية ونثرية.
www.facebook.com/awladuna
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق